رغم بعض الاختلافات السياسية والعسكرية، إلا أن عملية “درع الربيع” تندرج عموماً في نفس سياق العمليات العسكرية التركية في سوريا، التي بدأت مع “درع الفرات” ثم تواصلت عبر “غصن الزيتون” و”نبع السلام”، وأخيراً “درع الربيع”..
تمثل العنوان الأبرز للعمليات التركية الأربع بمحاربة الإرهاب، وإقامة مناطق آمنة للاجئين داخل الأراضي السورية نفسها، بعدما تحمّلت تركيا ما لا يتحمّله أي بلد، كونها الدولة الأكثر استضافة للاجئين في العالم مع أربعة ملايين لاجئ، 90 في المئة منهم تقريباً قدموا من سوريا هرباً من جرائم النظام وحلفائه.
لا بد من التذكير بأن تركيا فكرت مبكراً جداً في إقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية بعد تيقنها من نزوع الأسد للخيار العسكري في مواجهة الثورة، وإصراره على عدم تقديم أي تنازلات للشعب الثائر، ورفضه القاطع لقيادته (شخصياً) عملية انتقال سياسي سلمي وديمقراطي تمتد لسنوات، كما اقترح عليه آنذاك رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو تماشياً مع مطالب الشعب السوري، وحرصاً على سلامة وأمن واستقرار البلد الجار.
طرح الرئيس أردوغان فكرة “المنطقة الآمنة” لأول مرة صيف العام 2013، على الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي رفضها رفضاً قاطعاً في سياق مفاوضاته السرية مع إيران، ورغبته في إبقاء رجلهم بشار الأسد في دمشق، كما قال أثناء سجاله الشهير مع وزير دفاعه المستقيل تشاك هيغل. وفي العام التالي مباشرة بدأت الحكومة التركية التحضيرات، ووضعت الخطط لتنفيذ الفكرة بنفسها وبشكل منفرد، حتى دون دعم سياسي أو عسكري أمريكي، لكنها جوبهت برفض من ضباط جماعة فتح الله غولن المتنفذين في المؤسسة العسكرية، بإيعاز من واشنطن طبعاً. وكان يفترض أن يقود العملية العسكرية التركية قائد القوات الخاصة الجنرال سميح ترزي، قبل أن يتضح أنه عضو بارز في الجماعة، وأحد قادة الانقلاب العسكري الفاشل صيف العام 2016.
الخطط التركية الأصلية تحدثت عن منطقة آمنة للاجئين داخل سوريا تمتد من البحر المتوسط غرباً إلى الحدود العراقية شرقاً بعمق 50 كم تقريباً، وتنفيذها كان سيغير المشهد السوري بشكل جذري، وكنا سنتحدث الآن عن تنفيذ إعلان جنيف وليس إعلان سوتشي، وموقف تركيا كان ليصبح شبيهاً بموقفها في ليبيا عندما تدخلت مبكراً أيضاً دفاعاً عن مصالحها ومصالح الشعب الليبي، وثورته وحكومته الشرعية، والعملية السياسية التي تقدوها الأمم المتحدة، مع العلم أن الأسد لا يمتلك أي شرعية بعد استخدامه كافة صنوف الأسلحة ضد شعبه، وقتل مليون وتشريد عشرة ملايين من مواطنيه، مع تدمير نصف البلد تقريباً واقتصاده كله.
إذاً؛ وإثر إفشال الانقلاب وخضوع الجيش لوصاية القيادة المنتخبة، كما في أي بلد ديمقراطي، تحركت تركيا لإقامة المنطقة الآمنة عبر عملية “درع الفرات” (آب/ أغسطس 2016) ضد داعش في مثلث جرابلس الباب الراعي بتفاهم ضمني مع روسيا، بينما وافقت عليها أمريكا مضطرة وتحت ضغط الأمر الواقع، حيث لم تستطع مواجهة الحجة التركية القوية لمواجهة إرهاب داعش والدفاع عن أمنها وحدودها بالمعنى المباشر.
جاءت عملية “غصن الزيتون” في عفرين بعد عام ونصف (شباط/ فبراير 2018) في نفس الظروف تقريباً، مع اختلاف الهدف المتمثل بالذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تركيا إرهابياً، وواشنطن حليفاً، بينما وجدت الأخيرة حجة للتملص من مواجهة العملية كونها تجري غرب الفرات، خارج منطقة عمل قواتها، مع حملة سياسية وإعلامية ضدها بحجة تأثيرها السلبي على الحرب ضد داعش. وكما “درع الفرات”، كان الموقف الروسي داعما ضمنياً ضمن تفاهمات واسعة مع أنقرة التي نظرت إليها موسكو كشريك في سوريا، كما في ملفات ثنائية سياسية اقتصادية وعسكرية أخرى.
عملية “نبع السلام” (آب/ أغسطس 2019) تندرج في نفس السياق السابق، وكانت شبيهة بغصن الزيتون، حيث استهدفت الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، لكن مع اختلاف جغرافي وسياسي كونها تركزت فى منطقة شرق الفرات التي تعتبرها واشنطن خاضعة لسيطرتها. إدارة ترامب أيّدت العملية قبل أن تتراجع تحت الضغط السياسي والإعلامي في واشنطن، وتصل إلى تفاهمات مع تركيا لإبقاء العملية في عمق جغرافي محدد، ثم استعانت بروسيا وحتى النظام لإيقاف أو عرقلة العملية التركية، قبل أن تسعى لإخراج النظام وتحجيم الوجود الروسي في شرق الفرات، مع إبقاء النجاحات التركية ضمن الحد الأدنى.
إذا، تتفق عملية درع الربيع في السياق العام والأهداف مع العمليات السابقة، لكنها لم تكن مدرجة على خطط الحكومة التركية، لذلك لم تأخذ المدى الزمني الفاصل بين العمليات الثلاث السابقة الذي يبلغ عام ونصف تقريباً، بينما انطلقت هذه العملية الأخيرة بعد سبعة أشهر فقط من عملية “نبع السلام”.
التشابه تجسد في الأهداف والعناوين والسياق العام لجهة محاربة الإرهاب وتطرف جيش النظام (لا يقل إجراماً عن داعش في الحقيقة)، خاصة بعد استهدافه الجنود الأتراك ومنعه من التنكيل أو تهجير المدنيين، وإقامة منطقة آمنة للاجئين داخل الأراضي السورية بعمق كاف، وليس على شريط ضيق (خمسة كيلومترات) كما تطرح روسيا، مع الانتباه إلى أن تركيا لم تكن تنوي تنفيذها لولا جرائم النظام وتمادي حلفائه.
بالتأكيد لم تكن العملية “درع الربيع” على جدول الأعمال التركي، ولولا انتهاكات النظام، وتذاكي روسيا وسعيها لقضم مناطق خفض التصعيد، وفرض أمر واقع على تركيا وحشرها في الزاوية ظناً أنها باتت معزولة في ظل أزماتها أو خلافاتها العديدة مع أمريكا والناتو بشكل عام.
المواقف الروسية الضاغطة عبر النظام حملت ما يشبه الرد على رفض تركيا توسيع اتفاق سوتشي واعتباره بديلاً جغرافياً وسياسياً لعملية جنيف، كما رفض التساوق مع مخططات إعادة تعويم نظام الأسد أو التعاون مع المخططات الروسية في ما يخص إعادة الإعمار، أو عودة اللاجئين دون ضمانات سياسية وقانونية وبعيداً عن حضور الأمم المتحدة والشرعية الدولية، والتصرف وكأن القضية السورية انتهت ولا حاجة لعملية سياسية أصلاً.
جاءت عملية الغدر بالجنود الأتراك (27 شباط/ فبراير) من قبل روسيا والنظام لتفجر الغضب التركي وتسرع من تنفيذ العملية، خاصة مع عدم انصياع النظام للمهلة التي حددها الرئيس أردوغان لانسحابه من المناطق التي احتلها، بما يتناقض مع اتفاق سوتشي، وعندما ردت تركيا بغضب وعنف وقسوة اضطرت روسيا للتنحي جانباً وترك النظام وحلفائه من إيران ومليشياتها، عراة مكشوفين أمام الضربات التركية الجوية والبرية.
مثل عملية “نبع السلام” أيضاً، بدت تركيا في “درع الربيع” منفتحة على حلول وتسويات سياسية منطقية وقابلة للحياة، تتمثل بالتمسك بإعلان سوتشي واتفاقية خفض التصعيد، وإقامة مناطق آمنة للاجئين في إدلب وحلب إلى حين إنضاج الظروف أمام عملية سياسية شاملة.
هذا تبدى طبعاً في اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الرئيسان التركي والروسي في موسكو الخميس الماضي، مع ترك تفاصيل عالقة كثيرة للحوارات بين خبراء من الجانبين، ولم يكن من قبيل الصدفة كذلك أن يتم اعتباره ملحقاً لاتفاق سوتشي، مع السعي لتحويل وقف النار المؤقت إلى دائم، على طريق البحث عن تسوية سياسية وفق قرارات الامم المتحدة.
وهنا نعود إلى بداية المقال، وبالتأكيد لو كانت واشنطن- أوباما وافقت وتعاونت لتنفيذ الخطة المنطقة الامنة باكراً جداً (2013) ولو امتلكت الحكومة التركية المنتخبة الحرية والوصاية على الجيش لنفذتها منفردة في 2014، رغماً عن واشنطن وقبل ظهور داعش والاحتلال الروسي، ولكانت أقيمت المنطقة الآمنة على نصف سوريا تقريباً، ولكان الحديث الآن عن إعلان جنيف والانتقال السياسي والهيئة كاملة الصلاحيات ورحيل الأسد الحتمي على أية حال.