التوفيق من عند الله

من الممكن تقييم المثالية التي لم تنجح في الوصول لها بعض الحركات السياسية، على أنها أهداف لم يتم بلوغها وكانت نتيجتها الفشل، أو وعود انحرفت بشكل كبير عن هدفها الرئيسي. الحركة الاشتراكية؛ على سبيل المثال هناك امثلة لا حصر لها على الإخفاقات طيلة قرون من التجارب السياسية. هناك مثال آخر على الليبرالية التي توهمت بنصر مطلق كاد أن يعلن نهاية التاريخ تقريبًا، لتجد نفسها خلال فترة وجيزة أنها أمام واقع باتت تسخر خلاله من نفسها.

يمكن أن تقيّم هذه المواقف لتلك الحركات بأنها فاشلة، وهذا طبيعي، لكن في الوقت ذاته لا يمكن لأحد أن يتحدث عن نهاية الاشتراكية أو الليبرالية. آه نعم هناك من يتحدث عن نهايتهما أيضًا، إلا أن هذا الرهان في نهاية المطاف يكون إلى حد بعيد حكمًا يصدر عن أشخاص لا تعجبهم الاشتراكية أو الليبرالية. في السياق ذاته، يمكن أن يعطي هذا الرهان فكرة عن التجارب الشخصية المتعلقة بهذه الحركات فحسب.

ربما يكون هناك من يقوم بعمل تصورات مثالية باسم الإسلام في حقب معينة. وربما تكون هناك المحاولات أو التجارب التي فكرت وفق “عصر السعادة” وأخذت نموذجًا ثابتًا لتسقطه نحو المستقبل، والجزء الأهم من هذه هي تجارب “عصر الأيديولوجيات”.

في الواقع، هناك انتقادات لا حصر لها صدرت عن الكتل الإسلامية ذاتها إزاء تلك التجارب التي تتحدث عن مثالية طوبائية، واعتبرتها نوعًا من هوس “الصهيونية الإسلاموية”. ولقد كانت هذه الانتقادات بالدرجة الأولى نحو الخطابات التي تختزل الإسلام أو بتعبير آخر؛ الإسلام السياسي في مجرد وعود مثالية طوبائية. لقد كانت الإرادة والهوية والسياسة الإسلامية موجودة حتى في لهجة أولئك الذين يعتبرون الهوية الإسلامية شمولية بما فيه الكفاية وأنها تحوي على السياسة الضرورية بما فيه الكفاية أيضًا. أما النقاشات حول وجود هوية إسلامية في هذا النوع من الخطابات فقد وصل لدرجة أشبه بطريق مسدود.

إن الإسلام بطبيعته دينًا سماويًّا، لا يزال يمثل إيمانًا راسخًا لأي مؤمن من حيث أن الله سيتم نوره ولو كره الكافرون. هناك سياسة ناتجة عن هذا الإيمان وهي لا مفر منها، كما أن هناك شعور بالهوية والأحقية والعدالة، فضلًا عن إيمان راسخ بالتفريق بين فريق الحق وفريق الباطل. لكن بالطبع لا يمكن اختزال هذا الإيمان في مجرد تصورات طوبائية في حقب معينة ومن أشخاص معينين وباسم الإسلام.

إن أهم عيب يُعزى إلى الميتافيزيقيا الغربية، هو أن توظيف أي شيء وموضعته وتعريفه يتم وفق خطوط جامدة وقطعية. إن ما يكمن وراء هذا النوع من الميتافيزيقيا الغربية في السياسة، هو الرغبة العميقة في عدم وجود أي نفاذ للهويات، وتحولها إلى قوالب نمطية ثابتة على الدوام. وبالتالي فإن الصراع المستمر بين جميع الأصناف البشرية التي تتناسب مع بعض الصور النمطية، يؤسس للأعماق الميتافيزيقية للسياسة الغربية، وغالبًا لا توجد هناك علاقة بين تلك الأصناف وبين الواقع المعاش. وعندما تقع المواجهة مع مسلم حقيقي، بجميع معاني العمق والإنسانية والمعرفة أو خصائص الإنسانية الأساسية، فإن هذه الميتافيزيقيا السياسية سيكون مصيرها الانهيار.

هذا النوع لا يكفي لبعث دجّالهم عبر الإثارة التي يتم إغداقها بدعوى ما يسمى مكافحة الإرهاب التي يتحدثون عنها. ولذلك السبب فإن “داعش” بالتأكيد هي أفضل من يمثّل الإسلام والمسلمين بالنسبة لهم. وعندما لا يعثرون على وحشية لدى المسلمين تروي ظمأ دجّالهم، فإنهم ينشئون أنماطًا تناسب مخيلتهم ويهندسونها بعناية ومن ثم يبدؤون بتصديرها. ينتجون أنماطًا تشعر باحتياجها لقطع الرؤوس، وممارسة أبشع أنواع القتل والظلم، بعيدة كل البعد عن الحس الإنساني والمنطقي.

إن الاستشراق الذي بات أداة للسياسة المعاصرة الأكثر فظاعة، بينما يسير اتساقًا مع هذه صناعة هذه الأنماط، يبدو انه مع الأسف بات يؤثر على وعي المسلمين، حيث يتصرف العديد من المسلمين وفق التأثير المخدّر لهذه النمطية. حتى حين القول بأن الإسلام والمسلمين بعيدان كل البعد عن هذه النمطية، تجد هناك من لم يعد قادرًا على التخلص من ذاك التأثير. وفي النتيجة، تتم محاولة استبدال صورة نمطية ميتافيزيقية حول تعريف المسلم، بصورة نمطية أخرى ثابتة.

حينما يتم التظر للمسلم وفق صورة نمطية على صعيد العلاقات القائمة على مبدأ الصديق والعدو، وتظل تلك الصورة راسخة؛ فإنها لن تتغير مهما حاول ذلك المسلم أن يفعله، حتى تصبح ماهيته مادة لا يمكن أن تتغير جودتها. وبالمقابل، فإن الصفات التي ينسبها غير المسلمين لأنفسهم، تظل ثابتة غير قابلة للتغيير حتى تقوم القيامة. هناك من يعتقد من المسلمين أنّ الهوية المكتسبة ذات مرة هي حق مكتسب، وامتياز لا يمكن نزعه منهم على الإطلاق، وأن تحديدًا قائمًا ما بينهم وبين الإسلام.

إلا أن الهوية الإسلامية ليست حقًّا مكتسبًا، بل هي خيار يجب دفع ثمنه كل يوم. لا يمكن اختزالها في كونها حركة خيرية إما نحو قبلتها أو نحو الغرب، لا يمكن اختزالها في قولِ؛ أنا مسلم أو إسلامي، لا يمكن اختزالها في الاصطفاف في خندق يعلن أنه ضد الكفار.

إن الخيرية متعلقة بديمومة القيام ببعض الممارسات الصادرة عن حسن نية، وهي مرتبطة بفحوى امتحان بإمكانه الحكم بالنجاح أو الفشل على الدوام. يمكن أن يكون الإسلاميون أو المسلمون فاشلين، إلا أن هذا الفشل لا يرتبط بتحقيقهم أو عدم تحقيقهم أهدافًا سياسية ما، بل بمستوى الصدق إزاء معبودهم وانبيائهم والمؤمنين والناس.

وإلا فإن التوفيق دائمًا أبدًا من عند الله.

.

ياسين اكتاي بواسطة/ ياسين اكتاي  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.