عن تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان في تركيا

أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية قبل أيام تقريرها السنوي عن عام 2019 حول أوضاع حقوق الإنسان في مختلف دول العالم. حيث تقدم الوزارة تقارير سنوية للكونغرس عن الدول التي تتلقى مساعدات أمريكية والدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفقاً لقانون المساعدة الخارجية لعام 1961 وقانون التجارة لعام 1974.

الجزء المتعلق بتركيا من التقرير ورد في سبعة محاور رئيسة هي احترام الحقوق الفردية والحريات، احترام الحريات المدنية، حرية المشاركة في العملية السياسية، الفساد ونقص الشفافية لدى الحكومة، موقف الحكومة من التحقيقات الدولية وغير الحكومية حول انتهاكات حقوق الانسان، التمييز والانتهاكات المجتمعية وتجارة البشر، وحقوق العمال.

وقد غلبت على التقرير تقييمات سلبية بخصوص ممارسات حقوق الإنسان في تركيا، واتهامات عديدة للأخيرة تنوعت بين عدم تكافؤ الفرص في الانتخابات والتضييق على المعارضين مروراً بالأعداد الكبيرة للموقوفين عن العمل بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة وصولاً لاتهامات بالتعذيب والإخفاء القسري والاعتقال التعسفي.

وقبل الخوض في التفاصيل، ينبغي تقييم تقرير وزارة الخارجية الأمريكية في إطار أربعة سياقات عامة:

الأول، أن الهدف منه ليس تقييم حالة الديمقراطية والقانون والحريات في تركيا فجهة إصداره ليست جمعية حقوقية ولا هيئة علمية أكاديمية وإنما وزارة خارجية القوة العظمى الأولى في العالم. وبالتالي فهذا النوع من التقارير يستخدم عادة للضغط على الدول والأنظمة كأحد أدوات وزارة الخارجية.

وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد عبرت في أكثر من مناسبة سابقة عن مفاضلتها الدائمة بين مبدأ دعم الديمقراطية الذي تدعيه وتتبناه وبين تحقيق مصالحها مع الدول وأنها في العادة “تضطر” لاختيار الثانية كما جاء في مذكرات وزيرة الخارجية الأسبق هيلاري كلينتون، فإن الأمور مع إدارة ترمب في غاية الوضوح. فالرجل لا يتورع عن التصريح علناً بأن الديمقراطية والحريات وما إلى ذلك ليست معايير مهمة للتعامل مع مختلف الأنظمة والدول بالنسبة له.

الثاني، أن التقرير في عمومه ليس موضوعياً ولا حيادياً بل يبدو شديد التحيز. وليس مناط ذلك الوحيد المقارنة بينه وبينه تقارير تخص دولاً أخرى لا مقارنة تقوم بينها وبين تركيا في مجال الحريات، وإنما كذلك في البنود والصيغ والمصطلحات المستخدمة فضلاً عن سرد عدد من الاتهامات والادعاءات بدون أدلة أو مصادر واضحة.

الثالث، أن التقرير يقارب معظم التفاصيل والمحاور من وجهة نظر جماعة كولن إلى حد بعيد، وخصوصاً ما يتعلق بالمحاولة الانقلابية الفاشلة وما تلاها من إجراءات، فضلاً عن الإشارة لفتح الله كولن بصفة “الداعية” وعدِّ جماعته طيفاً من المعارضة السياسية على غير الحقيقة.

الرابع، أن التقرير يأتي في فترة تأزم بين تركيا والولايات المتحدة لأسباب عديدة، حيث شهدت السنوات القليلة الأخيرة دعماً أمريكياً لمنظمات تعدها أنقرة منظمات إرهابية وانفصالية، وتجميد واشنطن مشاركة أنقرة في مشروع F35 بسبب صفقة S400، ومماطلتها في تزويدها بصواريخ باتريوت الدفاعية خلال التوتر الأخير مع موسكو.

اقرأ أيضا

هل تنجح محاولة أردوغان مصالحة السودان والإمارات؟

ردُّ الخارجية التركية على التقرير الأمريكي لم يأت بعيداً عن هذه السياقات الأربعة العامة، حيث عَدَّه بيان لها “بعيداً عن الموضوعية، ذا دوافع سياسي، ويحتوي اتهامات لا أساس وادعاءات مبنية على مصادر مبهمة”. ورأى البيان أن الإشارة للكيان الموازي بصيغة “حركة كولن” وكأنها هيئة مدنية عادية “يحرم الشهداء الذين ارتقوا خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة من أبسط حقوقهم وهو حق الحياة”.

وأكد البيان أن معظم الادعاءات  التي وردت في التقرير مفندة في التقرير الوطني الذي قدمته أنقرة في إطار المراجعة الدورية الشاملة الثالثة للأمم المتحدة والذي نشر في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وأن عدم إشارة التقرير الأمريكي له ذات دلالة.

في بعض التفاصيل تظهر معالم الانحياز أو توجه التقرير بشكل واضح حين يتحدث مثلاً عن “سجن أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية” قاصداً الرئيس التشاركي الأسبق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش بما يوحي أنه أدخل السجن بعد ترشحه أو بسبب ترشحه، بينما الذي حصل أنه أعلن ترشحه من داخل سجنه.

ومن ذلك مثلاً الحديث عن عشرات الآلاف من الموقوفين عن عملهم بسبب اتهامات بعلاقاتهم بالكيان الموازي اعتماداً على أرقام صحيحة من وزارتي الداخلية والعدل، ولكن دون الإشارة – مثلاً – إلى أن الحكومة قد شكلت لجنة تظلم للنظر في الطعون والاعتراضات المقدمة لها منهم وأنها أعادت بعضهم إلى أعمالهم.

السياق العام للتقرير المشار له آنفاً والتحيز الواضح في بعض محاوره وتفاصيله لا ينفيان أن هناك نقاطاً أثارها قائمةٌ وتُناقش في تركيا داخلياً. منها مثلاً وقوع ظلم على بعض المفصولين من أعمالهم وكيفية رد اعتبارهم وهو أمر تتباحثه الرئاسة مؤخراً حسب ما فهم من الرئيس اردوغان. ومنها كذلك العدد الكبير من الصحافيين المعتقلين وفق تقارير هيئات دولية، ومنها كذلك إعادة انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى التي تسببت بجدل داخلي كبير.

لكن من المهم الإشارة إلى أن التقرير ليس مختلفاً كثيراً عن سابقيه وعن جملة من التقارير والتصريحات والإجراءات الأمريكية تجاه أنقرة، وأنه لا يحمل بالضرورة مؤشراً كبيراً على تغير مهم في التعامل الأمريكي معها. كما أن تركيا باتت تدرك التباينات بين المؤسسات الأمريكية في التعامل معها ومع مختلف الملفات ذات الاهتمام المشترك، ولذلك تركز على العلاقة مع الرئاسة دون إغفال باقي المؤسسات، ولعل ذلك مما يفسر عدم الاهتمام الكبير بالتقرير في الأطر السياسية والإعلامية التركية.

وعليه، فالعلاقات التركية – الأمريكية مرشحة للسير في نفس مسارها القائم في السنوات القليلة الأخيرة، والذي يمكن وصفه بحالة من التأرجح بين التحسن والتراجع قائمة على أرضية من التوتر، لكن مع إدراك واضح من الطرفين لجملة المصالح والمهددات المشتركة بما يحفظ العلاقات من الوصول لحالة القطيعة.

أخيراً، لا أحد في تركيا ينكر بعض الأخطاء والثغرات هنا وهناك، لا سيما وأن الديمقراطية التركية ما زالت في حالة مخاض ومسير مستمر وليست بالتالي في حالة مثالية. وأن الأمور تعقدت بعد الانقلاب الفاشل في 2016 وإعلان حالة الطوارئ بعدها والإجراءات الحكومية التي سعت لتطهير مؤسسات الدولة من عناصر الكيان الموازي بعد تغلغلها فيها على مدى عشرات السنين.

كما أن هناك نقداً موجهاً للرئيس اردوغان وحزب العدالة والتنمية بعدِّه الحزب الحاكم، وصولاً لتأسيس أحزاب سياسية جديدة من قبل قيادات سابقة فيه، لكن ذلك شيء وإمكانية اعتماد أحد من المعارضة على الضغط الخارجي على اردوغان أمر آخر. فقد أثبتت تجارب ومحطات عديدة سابقة أن الشعب/الناخب التركي يفضل الحلول المحلية وأن يكون هو صاحب القرار الأول والأخير رافضاً بشكل قاطع التدخلات الخارجية كافة.

.

 بواسطة / سعيد الحاج – trtعربي
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.