ماذا تعني المسؤولية؟

نحن كأناس في جميع أنحاء هذه المعمورة، لم نكن جاهلين بحقيقة أننا جميعًا نعيش في هذا العالم وأن هذا يفرض علينا مسؤولية تجاه بعضنا البعض، إلا أننا كنا غافلين عن ذلك، حتى جاء فيروس صغير بسيط ليذكر العالم كله بهذه الحقيقة البارزة.

اقرأ أيضا

بينما كان يحاول الأغنياء والمستكبرون في هذه الدنيا، تقليص حجم العالم حسب مقاسهم، كانوا يريدون لمن سواهم عالَمًا مضمحلًا أجردَ أكثر ممّا كان عليه في أي وقت مضى، ومع ذلك يصعب الوصول إليه.

أطفال أراكان الذين يعيشون أقسى الظروف وأصعبها في ميانمار، ألم يعدموا قوّة التحرك مترين للوصول نحو الطرف الاخر، بينما كانوا يعجزون عن الفرار من الرصاص الذي ينهمر فوق رؤوسهم، وبينما كانت جثثهم المحترقة تملا الحفر هنا وهناك. لم تستطع أجسادهم ولا صرخاتهم أن تصل لبغيتها من هذا العالم.

الوضع ذاته في غزة، مدينة كبيرة بأكملها وأناسها تقبع تحت حصار عدو محتل، والأخبار التي تتحدث عن مأساتها ومعاناة أهلها لا تتعدى كونها مادة إعلامية بالنسبة لهذا العالم الذي بات قرية صغيرة، دون ان تفلح في الوصول إلى ضميره ووجدانه بأي طريقة.

الشيء ذاته في سوريا، واليمن، وليبيا، وكشمير، وإفريقيا..

إن الذين ينعمون بخيرات هذا العالم القائم على العولمة لم يتعلموا يومًا كيفية دفع ثمن تلك النعم.

من محاسن فيروس كورونا، أنه يضع نصب أعيننا الفواتير التي تهربنا عن دفعها؛ لتلك النعم التي نعيشها رغدها في هذا العالم المتمدن، والخدمات التي نستفيد منها ليل نهار.

لم يستطع ذلك الطفل السوري الذي فقد بيته إثر غارة جوية من روسيا ونظام الأسد، وفقد معه أباه وأمه، حتى بقي يتيمًا وحيدًا جائعًا، وحينما وصل للرمق الأخير خرج عن صمته ليقول “سأخبر الله بكل شيء”؛ لم يستطع صوته النحيل أن يطرق سمع هذا العالم الذي أفسدته الرفاهية وأطبقت على سمعه وبصره وضميره، إلا أن العالم ذاته الآن يشعر ويرتجف على وقع صوت شكوى ذاك الطفل.

من المؤكد بعد اقتحام فيروس كورونا عالَمنا ان كل شيء سيتغير عما كان عليه ولن يكون يومًا كما كان عليه الحال في السابق. كنا نقول أن النظام العالمي الذي نعيش بين أكنافه بعيد كل البعد عن العدالة وأن هذا يمثل سببًا لمشاكل وأزمات خطيرة للغاية. ولذلك ظلت تركيا لسنوات عديدة تردد مقول “العالم أكبر من خمسة” في كلمة موجهة النظام العالمي الذي لا يعبأ بأزمات العالم ومشاكله ولا نية حقيقية له لحلّها.

إن فيروس كورونا يقدّم لنا دروسًا عدة، ولعل أول تلك الدروس أن السلوك غير المسؤول الذي يقوم به الآخرون بإمكانه تعريض حياتنا للخطر، كما أن سلوكنا غير المسؤول أيضًا من شأنه تعريض حياة الآخرين للخطر.

إن تنظيم سلوكنا الاجتماعي على هذا المبدأ الذي هو أيضًا أساس أخلاقي، يعتبر في الحقيقة مقياسًا أساسيًا للحضارة. كان علينا التفكير جيدًا بعواقب أي سلوك يتعلق بالآخر او من شأنه أن يؤثر عليه. لقد كنا غافلين عن ذلك، أما الآن فإن الحال يجب أن يكون مختلفًا وكذا الوعي والحساسية.

ربما الحل هو كما تحدثنا في السابق؛ من حيث أن علينا إعادة رسم حدود حرياتنا الفردية. ما هي سلوكياتنا التي تبقى ضمن حدود الفردية او الشخصية؟ إننا أمام صدمة وعي كبيرة من حيث أن على الجميع أن يكون منتظمًا بشكل ذاتي في إطار المسؤولية الاجتماعية.

إن هذا الوضع بكل تأكيد من طبيعته أن يولد مسؤوليات على صعيد الحياة المدنية وعلى صعيد النظام العالمي وكذلك على صعيد العلاقات الدولية أيضًا. يجب على الدول أن تنتهي من رفاهية الأنانية القائمة على اعتبار أن ما يحدث ضمن حدودي فهو خاص بي ولا يعني أحدًا غيري. في حال أن هذا العالم متداخل مع بعضه، وكل دولة فيه قد وصلت لحالة لا مفر منها من الانفتاح والتطلع على باقي أجزاء العالم.

نحن نتحدث هنا بالطبع عن الانفتاح والتطلع من حيث المستوى الأساسي لحقوق الإنسان.

الآن يتم الحديث عن أن الصين التي كانت نقطة انطلاق فيروس كورونا، بدأت تستعيد قوتها محققة تقدمًا كبيرًا تجاوز كل البلدان على صعيد مكافحة هذا الفيروس. إلا أننا لا يمكننا معرفة حقيقة هذه المعلومة، لأن الصين ليست شفافية في هذا الأمر، وعدم شفافيتها أصلًا كان السبب وراء خروج الأمور عن السيطرة منذ البداية. إن عدم شفافيتها منذ بداية الأمور وتكتمها على أمر ظنت أنه يخصها وحدها وأنه محصور داخل حدودها؛ جعل بقية بلدان العالم تدفع فاتورة ذلك التأخير والتكتم. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بصدق او كذب ما تصرح عنه حتى اليوم. لكن على الرغم من كل هذا، فإن عليها فرضًا لا طوعًا أن تظهر مسؤولية جدية في عدم إخفاء المعلومات الحقيقية ومشاركتها مع الآخرين، والتعاون معهم للتخلص من هذا الوباء العالمي.

إن التهرب من تحمل المسؤولية في هذا الصدد لم يعد خطره منحصرًا على أحد بعينه، بل على العالم كله على حد سواء، وهذا واضح وضوح الشمس.

كذلك السياسة التي أظهرتها مصر منذ البداية في التعامل مع هذا الفيروس، تشير إلى أنها للأسف واحدة من أخطر الأمثلة على صعيد اللامبالاة وعدم تحمل المسؤولية. إن هذا بكل تأكيد كما أنه يؤثر على مصر سلبًا بالدرجة الأولى؛ فإنه يلقي بآثاره السلبية كذلك على القارة الإفريقية بل والعالم بأكمله.

منذ البداية كانت محاولات تقليل الأرقام واضحة، حيث لا يوجد هناك مكافحة جماعية صادقة وحقيقية، فضلًا عن أن الفجوة الشاسعة بين النظام الحاكم وبين الشعب، يمنع من مشاركة الشعب في حملات التدبير والتوعية.

هناك بعض الأخبار تتحدث عن أن أرقام الإصابات وصلت إلى عشرين ألف، بينما الأرقام الرسمية المعلنة حتى اللحظة لا تتخطي المئتين. وعلى الرغم من موت رتب عالية في الجيش المصري جراء الإصابة بهذا الفيروس، فلا تدابير حقيقية في مصر. الشعب أيضًا لا يتجاوب مع حملات التدابير. إن الفشل في السيطرة على المرض في مصر لن يشكل تهديدًا على مصر وحدها فحسب، بل على بلدان الخليج وإفريقيا أيضًا.

لن نكون مخطئين لو قرأنا أهم رسالة من رسائل فيروس كورونا، على أنها “المسؤولية”، المسؤولية الفردية، المجتمعية والدولية.

يمكن أن نهلك جميعًا بسبب تصرفات غير عاقلة من بعض الأفراد بيننا، كما أننا بسبب تصرفاتنا الخاطئة يمكن أن نضر الآخرين كذلك.

.

ياسين اكتايبواسطة / ياسين اكتاي  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.