هناك رغبة حقيقية في البحث عن هذه التسلية لذواتهم، ولا بد أنهم يشعرون بالمتعة حينما تأتيهم على طبق يقدمه لهم بعضُ من كانت لديهم تجربة فاشلة في هذا الإطار، حيث يتم ربط فشلهم بإعلان انتهاء الحركة الإسلامية. بيد أنه لا أحد بإمكانه التشكيك في المسؤولية التاريخية داخل حركة أعلنت إفلاسها.
نعم ربما تعمقنا سريعًا في هذا الموضوع، وعلينا الرجوع قليلًا نحو الوراء؛ خلال سلسلة من المقالات التي كتبناها خلال الأيام الماضية حول الإسلام السياسي، تساءلنا عن نوع النجاح الذي يتوقعه من الإسلام السياسي، أولئك الذين حكموا عليه بالفشل بناء على تجربة فاشلة لدى البعض، وذكرنا أن هذا السؤال هو الحاسم في هذه القضية.
أي نوع من الإنصاف يتحلون به، وما هو النجاح او الفشل أصلًا الذي يصفون به الحالة التي تعبر عن المسلمين المضطهدين حول العالم اليوم، الذين يتم احتلال أراضيهم وأوطانهم، ويتعرضون لظلم وطغيان الانقلابات العسكرية في بلدانهم، كما يتعرضون لظلم حفنة من طغاة ومتكبري هذا العالم؟.
إن الخطابات التي تحكم بنهاية أو استمرارية الإسلام السياسي، إنما ترتبط بشكل وثيق بمفاهيم ومشاعر فردية تخص أصحابها. بينما تواصل القواعد الرئيسية الراسخة دورها التفاعلي الرمزي في هذا الإطار. أولًا؛ يتم تحديد تصوراتنا حول بعض المفاهيم والأفكار أو المؤسسات أو حتى الشخصيات من خلال تجاربنا الحاصلة معهم. ثانيًا؛ تتغير هذه التصورات تبعًا لتغيّر تجاربنا مع تلك المفردات.
لا مفرّ من وجود تصورات مختلفة للغاية فيما بينها، حول الإسلام السياسي، لأن ذلك مرتبط بعدد التجارب اللامتناهية معه؛ سواء في إطار النضج أو المفهوم أو الحركية. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الإسلام السياسي لا يبدو شيئًا مستقلًّا عن مجموع التجارب والتصورات التي تدور حوله.
لا يمكن أن تفصل التجارب الفردية نفسها اليوم عن المعنى التاريخي القائم بين الإسلام والإسلام السياسي، المعنى الذي يتمتع بتأثر معين من شأنه أن يكون مختلفًا بنظر الناس، على اختلاف تجاربهم الشخصية، ولكن ضمن إطار لا يبتعد عن الدور الذي يطرحه الإسلام في العالم اليوم.
إن أي أطروحة عن الإسلام السياسي لا تتمتع بالمعرفة الكافية حول ما يعنيه الإسلام في عالمنا المعاصر، محكوم عليها بالفشل. أما على الصعيد الفردي فمن الطبيعي أن يعيش المسلمون حياتهم الدينية من عبادة وما شابه؛ على اعتبار ما يقدمه كل فرد منهم من إجابة تبعث على طمأنينته حول ما يعنيه الإسلام بالنسبة له.
إلا أنهم -أي المسلمون- يعيشون على هاجس الصراع حتى مع أكثر الحالات بعدًا عن السياسة، وما ذلك إلا بسبب الدور الذي يتولاه النظام العالمي اليوم، من حيث التضييق على الظاهرة الإسلامية. لكن ومع ذلك، ربما يختلف مستوى الشعور بهذا الصراع من مسلم لآخر، إلا أنّ عدم الشعور بذلك في هذا العالم الذي مع مرور الوقت يتحول إلى نطاق ضيق؛ يبدو أمرًا مستبعدًا ونادرًا.
إن النظام العالمي وفق نظرياته المعرفية والهيمنة من حيث قيامه على هدف زوال الإسلام من هذا العالم، لا بد أنه يشعر بهزيمة نكراء وهو يرى الإسلام صامدًا ويتمتع بتأثير قوي حتى الآن. وذلك لأن الحسابات التي قام عليها هذا النظام العالمي كانت حسمت أمرها بأن الإسلام لن يكون له مكان في المستقبل، كما لن يكون هناك مكان للمسلمين أيضًا؛ إلا بقدر ما يتخلون فيه عن مطالبهم السياسية ومظاهرهم الاجتماعية، بمعنى آخر: لن يكون لهم مكان أيضًا بنظر النظام العالمي. إن حرمان المسلمين من جسد سياسي خاص بهم، ليس نابعًا من ترجيح حرّ اختاروه لأنفسهم، أو من تطور اجتماعي خضعوا له، أو من حالة فساد أو كسل، بل هو نتيجة طبيعية لتدخل استعماري غاشم كان جاثمًا فوق صدورهم. ولقد استمر أصحاب هذا التدخل بمتابعة نتيجة ما صنعوه حتى النهاية، ليجدوا في نهاية المطاف أنهم قد فشلوا حقيقة، بمجرد أن يروا مظاهر الإسلام لا تزال قائمة، والمسلمين يواصلون حمل هويتهم الدينية دون خجل أو مداهنة.
بالطبع إن الموضوع لا يقتصر على مجرد وصفه بالفشل فحسب، بل هناك أبعاد أخرى له أيضًا. وهو من منظور ما يبدو نوعًا من المشاكل النفسية الخطيرة. إنها مشاكل نفسية كتلك التي تعاني من هاجس الأشباح والوحوش، كأن تعتقد أن أحدًا ميت ثم تراه ماثلًا أمام عينيك يمشي جسدًا وروحًا. نعم إن حالة الخوف من الإسلام تشبه إلى حد كبير هذه الحالة النفسية.
إن بقاء الإسلام وقيامه دون تراجع، من غير أن يعتمد أو يرتبط بنجاح أو حركة سياسية إسلامية ما، يعتبر فشلًا ذريعًا وربما وصمة عار في جبين مشروع الهيمنة الغربية. أما النموذج السياسي الإسلامي الناجح فحو هزيمة أكبر بالنسبة لذاك المشروع. لأنه يعتبر تخييبًا لآمال النموذج الذي كان يُراد له أن يتجسد باسم الإسلام؛ مسلم ضيف الإرادة يعتمد على القدر فحسب ولا يخرج عن رؤية المستشرقين.
ختامًا أنوّه إلى أن هذا المقال والنقاش حول هذه القضية، تعتبر إلى حد كبير تمهيدًا للحديث لاحقًا حول كتاب “استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي”، لـ سلمان سيد، والذي لاقى نجاحًا بطباعته بعد ترجمته للتركية. نقف اليوم عند هذا الحد من الحديث، ولنا عودة في المقال القادم بإذن الله.