لم يكن ذلك رغبة أو تطلع ما بعد الحداثة، بل كان حكاية واقع. لكن وعلى الرغم من كونه حكاية واقع فلا بد أنه جاء بسرعة أكثر من اللازم. لأن بحث الناس عن أصنام جديدة لهم لن ينتهي بهذه السهولة. والسرديات الكبرى في نهاية المطاف هي نتيجة طبيعية للرغبة في إنشاء حقائق افتراضية محايدة في الطبيعة البشرية، وجعل الناس يؤمنون بها. لن ينتهي صنع الناس أصنامًا لأنفسهم والبحث عمّن يشتريها، ما دام هناك أناس.
لقد أنتج الغرب في ظل ما بعد الحداثة رواية في سياق الهيمنة الغربية، وهي “جلب الديمقراطية” إلى المناطق المتخلفة التي تتلظى بنار الديكتاتورية، ولقد ظلت هذه الرواية مؤثرة لوقت ما. وعليه إذن ألم يجلبوا الديمقراطية إلى العراق وأفغانستان مثلًا؟ لم تفلح أي حجة لإقناع الناس بهذا السردية الكبرى، لكن في ظل هجمات ١١ سبتمبر تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من إقناع الناس من خلال أنها مصابة وبالتالي فهي معذورة.
لنسلّم فرضًا بأنهم جلبوا الديمقراطية للعراق، إلا أنه لم يقم أحد بمساءلة الولايات المتحدة وحلفائها بشكل كافٍ، عن سر نشأة الإرهاب من هناك. إن مصطلح “الإرهاب الإسلامي” الذي ابتدعته الولايات المتحدة والتحالف الغربي بأكمله وأقاموا على أساسه سردياتهم الأمنية، استخدموه وأنعشوه في المناطق التي جلبوا لها “الديمقراطية”، كما جعلوا منه حجة لحروبهم. بالطبع من اللازم أن نعلم بأن طريقة إقناعهم بهذه الحجج والسرديات الكبرى، تعتمد على فرض الأمر الواقع ليس إلا.
ربما يكون السرد العلماني هو إحدى أكبر السرديات التي تشير إلى هذه القوة الفعلية. إن العلمانية بالنسبة للغرب هي إحدى أهم المكونات التي يعرّف بها نفسه اليوم مدّعيًا عالَميتها. كما أن العلمانية وفق المفهوم الذي حدده الغرب، تعني أيضًا أنها ضد الإسلام.
ولذلك، فإن العلمانية كلما قطعت أشواطها على اعتبارها قيمة عالمية، كلما تقدمت الهيمنة الغربية أي الحداثة نحو ظفرها المطلق، لتصبح في النهاية حقيقية راسخة في الأذهان. في كتاب “الحداثة في تركيا” للشهير نيازي بيركس، من الواضح استخدام معنى الحداثة بشقيه الذهني والمؤسساتي وفق المعنى الغربي للكلمة، أي بمعنى العلمانية في الوقت ذاته.
وفي المقابل فإن جميع المظاهر والانعكاسات والإشارات التي تستدعي الإسلام وتستذكره كقضية من أهم القضايا، تنعكس على أنها اعتراض على العلمنة التي تدعي العالمية.
ووفقًا لتحليلات سلمان سيد، فإن الخطابات العلمانية من حيث كسر هذه المقاومة التي أمامها، تعثر على خطاب جانبي آخر؛ هذا الخطاب من داخل الإسلام تمامًا كما خرج ذلك الخطاب من رحم ثقافات أخرى حاولت المقاومة، وذلك من خلال تسليط الضوء على الحركات والأفكار والاتجاهات الموازية للعلمانية، وبهذا الشكل تكون العلمانية على الرغم من كونها غربية المنشأ، إلا أنها عالمية وشمولية.
في الحقيقة إن خطابات المسلمين التي تم طرحها باسم العلمانية على صعيد نقد بعض المسلمين، ساهمت بدورها في تقوية ذلك الطرح؛ شمولية العلمانية لدرجة أنها باتت مطروحة في داخل الإسلام والمسلمين.
ولذلك فإن العلمانية من حيث هي واحدة من أقوى سرديات الهيمنة الغربية، فإن أبرز مطلب أو ادعاء لها كان العالمية-الشمولية. وإلى جانب ادعاء العالمية، كما تتم محاولة إثبات وجودها (أي عالمية العلمنة) في كل ثقافة وفي جميع أنحاء الدنيا، يتم تقديمها كذلك على أنها نقطة نهاية على طريق تطوري يسير نحو وصولها لكل الناس. ولذلك ستتم علمنة الجميع حتى أولئك المسلمين الذين يُنظر لهم كعقبات في طريق التطور ذاك.
يحاول كتاب “العصر العلماني” الضخم للفيلسوف الشهير تشارلز تايلور، الذي نشره عام ٢٠٠٧ وحصل على جائزة تمبلتون الكبرى، على اعتباره مواليًا للسردية الكبرى للعلمانية؛ يحاول إظهار كيف أن جميع الثقافات والمعتقدات حول العالم، تعثر على العقل العلماني المندمج من داخل ذواتها.
قد يُعتبر تايلور في الحقيقية كاثوليكيًّا متدينًا كرّ كل أعماله لبناء عالم مسلم ومتعدد الثقافات، إلا أنه في الوقت ذاته يعتبر واحدًا ممن روجوا لعالمية العلمنة بكل ما يمتلكه من قوة فلسفية وتأثير حول العالم، لدرجة أن سردية عالمية العلمنة تجعل “ما بعد الحداثة” شيئًا ورائيًّا عفا عليه الزمن.
ولذلك يعتبر “استعادة الخلافة” لسلمان سيد، من حيث كونه محاولة إنشاء ذات إسلامية؛ خطوة مهمة على صعيد مواجهة سردية العالمية للعلمنة.
ربما يمكننا محاولة هز هذا السرد الفلسفي من خلال بعض الأسئلة. على سبيل المثال؛ هل رؤية آثار العلمنة في أقدم الأزمنة يعتبر علامة على عالميتها، أم هو موقف أثري عتيق؟.
أو أن الاتجاهات الصادرة عن جميع الثقافات حول العالم إزاء تلك الفكرة أو الموقف؛ ليست من باب إضفاء العالمية، بل من منطلق أنها خليط لا يمكن الاستيلاء عليه؟.
لنا عودة تنطلق من هذه النقطة…
.
عرض التعليقات
بارك الله فيك يا اخ ياسين اكتاي.
والله مقالاتك واقعية و مشهية للقراءة. نعم العلمانية ماهية الى لوسيلة اسعباد و تخلف بطريقة اخرى وهي الطريقة الخبيثة لضرب الاسلام و غسل عقول شبابنا وفتياتنا. مع الاسف من يدعون الاسلام من بعض العرب هم يساعدون لضرب الاسلام ونشر العلمانية تحت غطاء الحرية و الديموقراطية علما بان الاسلام يجمع الاثنان سوية بين الكل. الانكليز نجحو بزرع الفتنة و النفاق بين شبابنا لابعادهم من الاسلام والنظر الى العلمانية بالتقدم و الحرية .اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم ورد كيدهم في نحورهم اللهم عليك بالظالمين اللهم زلزل الارض تحتهم