فسر مراقبون التغير في حدة لهجة السلطة التنفيذية المشرفة على تطبيق قوانين الطوارئ المتعلقة بجائحة كورونا على أنّه أمارة تغيير جذري في هيكلة الدول الديمقراطية والبنية الاجتماعية القائمة على الفكر الليبرالي.

فهل من الممكن أن تنعكس أخلاقيات حقبة الطوارئ على الصعيدين التشريعي والتنفيذي لتؤثّر سلباً على العلاقة بين الدولة والمواطن على المدى البعيد؟ أو أن التأثير ينحصر في الفترة الطارئة الحالية لا غير، أو ربما ينحصر الأمر في إحداها ليؤثّر على سبيل المثال في السلطة التنفيذية التي تشكّل دور الوسيط ما بين التشريعية والمواطن، لا سيما أنّ الأولى -حسب مراقبين- من غير البعيد أن تستسيغ لذة السلطة بعد كبح القانون لها لعقود عدة! وماذا عن ردة فعل المواطن الليبرالي الرافض بطبيعته لأي نوع من أنواع الوصاية السياسية في حياته الشخصية؟

وإلى أيّ مدى لعل تردّي الاقتصاد سيكون له دور البطولة في إعادة هيكلة طبيعة النظام السياسي داخل الدول الليبرالية المتحكّمة في الزمام بما يتناسب مع الواقع الجديد؟ ما يؤدي بدوره إلى إعادة رسم خريطة تعريفيّة جديدة بين الدولة والمواطن على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة!

أو من جانب آخر -حسب متابعين- ربما يلعب العجز الحكومي لهذه الأنظمة الليبرالية في السيطرة على جائحة كورونا على مستوى تأمين المستلزمات الطبية، بخاصّة إذا ما قورن الأمر مع التعاطي الصيني اللافت للجائحة ذاتها، ربما يستحضر ذلك بدوره غضباً عارماً في الرأي العام الذي يغيّب العقلانية بطبيعته ليحاكم الواقع بشكل إجمالي عاطفي لعدم امتلاكه ملكة البحث في التفاصيل، ما سيدفع المواطن إلى احتمالية المناداة إلى اختيار التيار اليميني المتاح أو إعادة استحضار النظام الشمولي القادر بظنّه على تأمين حاجياته ورعايته بنجاح، ويأتي ذلك تبعاً لمعاينة الرأي العام ومقارنته بين واقعه والواقع الصيني الذي حوّله الإعلام الدولي عنوةً إلى قصة نجاح يتخللها الغموض بعكس الواقع السياسي الليبرالي النقيض.

الليبرالية.. تواجه ذاتها!

واعتبر محمد صبرا الخبير في الشأن القانوني والسياسي، أنّ الجائحة الصحية في الدول المتقدّمة تكنولوجياً وضعت الديمقراطية الليبرالية في مواجهة مع النفس لترُاجع بنيتها السياسية بناء على العديد من المعطياتٍ المستجدّة والمؤثرة إلى حدّ الانقلاب على الذات، مشيراً إلى أنّ تفشّي فيروس كورونا “كشف عن عمق الأزمة الكامنة داخل الفكر الديمقراطي الليبرالي، من حيث الدولة في النموذج الغربي التي انتقلت من الدولة الحارسة كما أنتجها القرن الثامن عشر والتاسع عشر إلى دولة الرعاية التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن ضرورات التصدّي لانتشار الفيروس اليوم أدت إلى عودة المفهوم التقليدي للدول، التي تحتكر قوة القهر والإجبار، وهو الأمر الذي لا شكّ ستكون له تداعيات أساسية في المستقبل كجزء أساسي من الأسئلة الكبرى التي بدأت منذ مطلع هذه الألفية، وتتمحور حول إعادة تعريف دور الدولة وآليات تدخُّلها في المجتمع”.

ويضيف المتحدّث نفسه أنّ اضطراب العلاقة في الدول الديمقراطية الليبرالية يعود إلى ما قبل جائحة كورونا قائلاً: “إنّ أزمة الدولة في الغرب تعود إلى نهايات القرن الماضي وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي شكّل نموذجاً منافساً للدولة الديمقراطية الليبرالية، هذا الانهيار صاحبه صعود مقولات مثل نهاية التاريخ أي إعلان الانتصار النهائي لليبرالية، هذه المقولات المتعجلة لم تلحظ الأزمة البنيوية الكامنة في الدولة الديمقراطية الليبرالية، والمتمثلة في التوتر الأساسي بين مفهوم الديمقراطية القائم على فكرة المشاركة الشعبية من جهة، والمساواة التي تفترض قدرة المواطن على التعبير عن مصالحه وتقرير مصيره عبر صيغة تمثيلية تنتج نخباً سياسية تعبر عن هذه المصالح في البرلمان، وبين الليبرالية التي تفترض حماية الحقوق والحريات الأساسية والملكية الخاصة من تعسف الدولة، الأمر الذي يتطلب تقييد سلطات الدولة في هذا الإطار”.

يضيف صبرا موصفاً الإشكالية الكبرى في هذا النموذج حسب تعبيره: “هو أن الصيغة التمثيلية في الحكم والقائمة على مبدأ الانتخابات الديمقراطية واجهت أسئلة كبرى بخاصة مع تراجع الاهتمام ونسب المشاركة الشعبية في الانتخابات، مما خلق السؤال الكبير وهو كيف يمكن الاعتماد على إرادة جزء من الشعب -الذين شاركوا في الانتخابات- لفرض قوانين ملزمة لكل الشعب!”.

التغيير والعنصر الحاسم

يرى المفكر السياسي البروفيسور لؤي صافي أنّه لا يمكن النظر إلى الصدام بين الشرطة وأي احتجاجات شعبية على أنّه دليل على تغيير في بنية الدول الديمقراطية، مشيراً إلى أنّ “الصدام بين الشرطة والاحتجاجات الشعبية هو من عمر الديمقراطيات ولا يمكن النظر إليه على أنه علامة تغيير”.

ويؤكد المتحدّث  قائلاً: “إن الاحتجاجات في مثل هذه الدول إذا ما كانت تحمل مطالب شعبية واسعة فإنها عادة ما تلقى تأييداً جماهيرياً وتُولد ضغوطاً على نواب الشعب لتتعاطى مع الأسباب التي ولّدتها، ليبقى دور الشرطة وينحصر في منع المتظاهرين من إغلاق الطرق وتعطيل الحركة”.

واعتبر البروفيسور صافي أيضاً أنّ الحديث عن مسألة انعكاس أزمة كورونا على الواقع السياسي الغربي والتأثير على بنية الدول “أمر سابق لأوانه”. يضيف المتحدث نفسه أنّ مثل هذه التغيرات تتوقف على عوامل عدة أهمّها “طول أمد الوباء، وآثاره الاقتصادية”، وأكّد أنّه: “ربما تحصل تغييرات في بعض الدول الأوروبية في حال عجزت قياداتها عن حلّ مشكلاتها الاقتصادية، ما قد يعطي التيارات القومية الأوروبية الفرصة للتحرك”.

واعتبر محمد صبرا أنّ المفاهيم التي تجسّد علاقة المواطن مع الدولة كانت ولا تزال في تطورٍ دائم ولافت تبعاً للظروف المستجدّة والمحيطة، مشيراً إلى أنّ قول جفري مارشال: “لا يوجد أي حق أخلاقي في مخالفة القانون” هو انعكاس يختصر المفاهيم السائدة في القرن التاسع عشر، لكن في النصف الأوّل من القرن العشرين حسب قوله، “تجاوز الزمن هذه المقولات بسبب تطور مفاهيم الحقوق الفردية، عندما ازدادت قدرة المواطن على امتلاك أدوات مقاومة التدخل التسلطي للدولة باعتبارها المعبّرة عن سيادة الأمة، لكن اليوم وفي حالة الخوف والهلع من انتشار الفيروس شكّل ذلك للسلطات السياسية فرصة جوهرية في إعادة الاعتبار إلى مفهوم الدولة القائمة على فرض إرادتها بقوة القهر والجبر عبر استخدام أجهزة إنفاذ القانون، الشرطة والجيش”.

ويزيد المتحدّث محمد صبرا   : “لكن حتى اللحظة لا يمكن تقدير ما إذا كانت الإجراءات العنيفة أو الطارئة التي لم تؤسَّس على الإقناع بل فُرضت قهراً ستؤدي إلى العودة إلى نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية السابق أو لا!”.

وفي الختام لفت المفكر السياسي لؤي صافي في إفادته  : “الطريف أنّ الحديث عن تغيير في المنظومة السياسية الغربية يأتي من المعلّقين العرب عموماً، ولعلّ ذلك يعكس رغبة ذاتية في إنهاء التفوق الغربي، وهذه بطبيعة الحال أماني في غير محلها، لأنّ تراجع الدول الغربية لن يولّد نهضة عربية!، فنهضة العرب تتعلق بتغيير طرائق العمل والتفكير والتعاطي مع التنوع الديني والقومي والطائفي من خلال منظور التعاون بدلاً من الصراع الداخلي، وكذلك من خلال المساواة في الحقوق ضمن دولة المواطنة بدلاً من التسلط والهيمنة!”.

إلا أنه في حقيقة الأمر علت العديد من الأصوات داخل المنظمات المدنية الأوروبية واللجنة المعنية في البرلمان الأوروبي التي لم تُخفِ مخاوفها من خطورة استحكام قانون الطوارئ المتعلّق بأزمة كورونا وتأثيره على الحقوق الأساسية ودولة القانون والمبادئ الديمقراطية للاتحاد الأوروبي، محذرين باقي دول الاتحاد من السير على خطا دولة المجر التي أعطت كلّ الصلاحيات لرئيس وزرائها، بل وفرضت عقوبة السجن على الصحافيين الذين ينشرون معلومات غير مغلوطة عن فيروس كورونا، ما خوّف البعض حسب محللين، أن تتعرض أي تغطية إعلامية لا تروق للحكومة للعقاب أو المنع أو المحاسبة! ويبقى الجواب الفيصل في ظل الأحداث المتسارعة برسم كورونا المتحكّم والمتغير الأكثر تأثيراً وفاعلية في كل المتغيرات السياسية والاقتصادية الحساسة لا سيما على المدى المنظور.

.

المصدر / TRT عربي