إن العلمانية ليست تطورًا استثنائيًّا في تاريخ البشرية. وليس من الغريب أن يقوم المعجبون بالعلمانية بتجميلها واعتبارها مرحلة هامة في طريق تقدم البشرية. يقول كتابنا الكريم ما معناه أنّ الطرق التي يختارها الناس تُزيّن لهم. هناك العديد من الآليات التي تزين للناس مفاسدهم وتجعلها جميلة بأعينهم. لم تعتبر الفلسفة الحديثة ذلك إيديولوجية، بل ثقافة ونظامًا معرفيًّا. وها هو ماركس دون أن يدرك التشويه المنعكس بذهنيته، أطلق على هذه الإيديولوجية المخادعة اسم؛ “الانعكاس المشوه لوعي الواقع”.
يمكن أن يتناسى المجتمع ويهمل الحقيقة التي لا يمكن أن يفر منها أو يُستثنى منها، كالموت المكتوب على كل أحد. هناك العديد من الأشياء التي تفرّق بين البشر؛ الثقافة، العرق، الجغرافيا، الجنس، التاريخ، الطبقة، الوضع أو أي فروقات اجتماعية أخرى، إلا أن الميزة الوحيدة التي تقضي على كل تلك الفروقات وتوحد بين الناس جميعًا؛ هي الموت. الموت الذي أطلق عليه ألفونسو لينجس بـ “القاسم المشترك للأشياء التي لا تناسق بينها”.
وعلى اعتبار ما قاله هايدغر بأن “الكل يموت بمفرده”؛ فإن الجميع يموتون حيث أن الموت هو السمة المشتركة بينهم. وفي المقابل يعتبر نسيان الموت والتغافل عنه كأنه ليس موجودًا؛ السمة الأبرز لعلمانية الإنسان، حيث يدفعه لظلم من هم يشتركون معه في سمة الموت، وأكل حقوقهم ومعاملتهم على اعتبار أن لا حياة بعد الموت ولا حسابًا.
إن العلمانية هي إهمال الإنسان لتلك الحقيقة البازغة بزوغ الشمس، والتغافل عنها ونسيانها وربما تجاهلها. إذا لم تكن هذه جاهلية فما هي الجاهلية إذن؟ وبعد ذلك هل يتفاخر الإنسان بجاهليته تلك؟ ها هو يتفاخر نعم.
إن العلمانية باعتبارها أيديولوجية الحداثة، فإنها علَم على تباهي المرء بمأساته وتعاسته، وهذا بحد ذاته ليس شيئًا جديدًا أو حديثًا.
لو كان للعلمانية فلسفة خاصة فستكون الحالة الإنسانية، من حيث غفلة الإنسان، ونسيانه وجوده، ونسيانه الموت الحقيقة الأساسية لهذه الحياة، ونسيانه المسؤولية تجاه الآخرين، وهذه الحالة الإنسانية قديمة قدم البشر. وربما الذين يزينون هذه الغفلة الإنسانية ويجعلون منها فلسفة وتجميليات اجتماعية، يرقون لمستوى الضلالة، لكن جوهر القضية سيبقى النسيان.
إن المسلمين ليسوا مستثنين بالطبع من احتمالية ومخاطر هذه الغفلة. لكن حينما يعقّد البعض أطروحاته تجاه ميول المسلمين الدنيوية واعتبارها خطًّا لا رجعة فيه فإن ذلك يدعم كفة العلمنة بشكل أكبر.
إن الغفلة الدنيوية في حياة الفرد لا تختلف بطبيعتها عن تقلبات وحالة المد والجزر لكل من الدين والتدين والتفكير بالآخرة في حياته. ولقد أشرنا أكثر من مرة لدراسات قيمة أكدت على عدم صحة ادعاء “العصر العلماني” أو اجتماعية العلمنة أو عالميتها. من بين تلك الدراسات ما قدمه بيتر بيرغر وتوماس لوكمان ضاربين بأوروبا مثالًا، حيث اعتبرا أن أكثر الحقب التي تعتبر أنها عاشت العلمنة، لم تكن فيها العلمانية بهذا الشكل، بل على العكس فقد شهدت تطورًا دينيًّا.
ديفيد هيوم الذي يعتبر أحد المفكرين المشهورين في عصر التنوير، يقدم في كتابه “طبيعة الدين”، أنموذجًا يدحض بشكل أوضح الأطروحة التي تقول بأن العلمانية تطور جاء ضد التدين أو التوحيد. وهذا الأنموذج الذي كان على عكس التيار في عصر التنوير حيث وصلت فيه القيم العلمانية ذروتها؛ قد صان نفسه من الخط الذي كان يأطر الدين ضمن انزلاق من التوحيد نحو التعددية-الشرك، وخط التطور بين العلمانية والدين عبر التاريخ.
هيوم ذاته في مواجهة النهج الوضعي التطوري الذي كان نموذجًا مهيمنًا في تاريخ الأديان، وقبله بكثير؛ كان يرى بأن كل دين على حدة والأديان فيما بنيها، تحوي على مد وجزر أشبه بالرحلة؛ من الشرك أو الخرافة، نحو التوحيد أو الكتاب الذي يحمل قدسية، ومن ثم نحو الشرك-الخرافة مرة أخرى. هذه الحركة تمكننا من مطالعة الفروقات بين التوجهات على صعيد تاريخ الأديان.
إن التطورات أو الخطابات التي يُنظر لها على أنها بعيدة عن الدين في عصرنا الحديث، هي أفعال وخطابات كانت موجودة منذ وجود الإنسان الأول، ولا تزال مطرح صراع ونقاش. وربما سجل أحد الاتجاهين غلبة على الآخر واكتسب ميزة نسبية في حقبة ما، إلا أنه لا توجد حقبة على الإطلاق شهدت تدمير اتجاه للآخر بشكل تام. حيث أن الرغبة في العلمانية وكذا التدين اتجاهان أساسيان للإنسان.
هذا الاتجاهان يشهدان أحيانًا مدًّا وجزرًا داخل مجتمع ما. وبالتالي تتم رؤية ملامح تدين أو ابتعاد عن التدين في هذا المجتمع. إلا أنها تحدث في المجتمع على شكل موجات تاريخية، لا يمكن فيها تتويج اتجاه بأنه حركة تطورية على حساب الآخر.
تشهد الدنيوية والأخروية أحيانًا رحلة مد وجزر داخل دين بعينه، حيث يتبنى أحدهما وينبذ الأخرى. وفي حين لم يتم استوعاب ذلك يضحي الدين (في نظر أتباعه) متماشيًا مع التيار الدنيوي من أحداث وأهداف. بمعنى آخر، بينما المفترض أن يصغي الإنسان للخطاب الديني المنقذ له فيغير نفسه، يسعى نحو تطويع الدين لمصالحه الدنيوية ويلويه بما يتناسب معها، فيضحي الدين تابعًا له بدل أن يكون متبوعا.
وأحيانًا يشهد الفرد بداخله الخاص حركة مد وجزر ما بين التدين والدنيا. ولا يمكن للإنسان أن يكون في الحالة المزاجية أو الروحية ذاتها. يمكن لإنسان ما قد غرق بهذا العالم ومادته، أن يلجأ لحظة ما نحو الدين والتدين، نتيجة حادث ما، أو خبر تلقاه، أو شيء رآه، أو رسالة وصلته. وبهذا الاتجاه يمكن أن يعيش “توبة” وتجربة الولادة من جديد. كما يمكن أن يكون العكس، حيث ينكر هذا الإنسان فجأة أنه سيحاسب يومًا ما أمام الله ويستدبر كل تلك المفاهيم وراءه، ويسير نحو الدنيا.
.
.