نمتلك تاريخ برلمان طويل يفوق عمره عمر بعض الدول والبلاد اليوم. وإن ذلك البرلمان منذ إعلانه “القانون الأساسي” في ٢٣ ديسمبر ١٨٧٦، تمكن من تجاوز العقبات عبر الارتكاز على الإرادة الوطنية وصوت الشعب.
إن العودة نحو الشعب عبر تشكيل ما يشبه المجالس والمؤتمرات المحلية في كل من أرضروم وسيواس، لمواجهة احتلال الأناضول، مهد الطريق أمام تأسيس البرلمان الحالي. إن عقلية “القوة عند الأمة والإرادة العشبية غالبة” التي تشكلت في مؤتمر أرضروم، كانت تمهيدًا وإلهامًا لمبدأ “تسليم الأمر للأمة دون قيد وشرط” الذي بزغ في أنقرة. ولذلك ليس منم العبث حينما نستعرض الأسماء التي تسمى فيها البرلمان عبر التاريخ؛ المجلس الأول، المجلس المؤسس، المجلس العالي، وأخيرًا مجلس الأمة الكبير. هذه الأسماء جميعها تشير في الأساس إلى مكان ومؤدّى، ألا وهو “المجلس” الذي يمثل الأمة وإرادتها. ولقد انعكست إرادة الأمة لأول مرة في المجلس الأول، حينما تم التحول من إرادة السلطان إلى إرادة الشعب.
لقد كان البرلمان هو العنصر الذي ميز تركيا عن الدول التي تأسست عقب الدول العثمانية، ولقد كان الميزة التي تميز تركيا عن العالم الإسلامي. على الرغم من جميع التعثرات، والانقلابات والاضطرابات السياسية، فإن البرلمان قد جعل من تركيا اليوم دولة لها مكانة محترمة بين الدول. لقد كانت تقاليدنا البرلمانية بلا شك ملهمة ومؤثرة في كل من سوريا والعراق ومصر ودول عربية أخرى تأسست عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية. إلا أن الظروف التي عاشتها تلك الدول قضت تمامًا على هذه التجربة وذهبت بها نحو مناحٍ عدة. ما يميز البرلمان التركي عن مجالس برلمانية معاصرة، هو محافظته على تقاليده البرلمانية القديمة، وحفظه الأناضول من الاحتلال.
عقب مهاجمة الإنجليز لمجلس البرلمان العثماني في ١٦ مارس ١٩٢٠ على الفور، تمكن الوفد التمثيلي في البرلمان من نشر بيان الانتخاب في ١٩ مارس من العام ذاته، ليتم التوجه نحو تأسيس البرلمان الحالي.
عندما نفكر بظروف تلك المرحلة، نجد أن هناك دافعين وراء هذه السرعة للتوجه نحو تأسيس البرلمان؛ الأول: مواجهة الدولة لخطر احتلال وبدء النضال الوطني ضد الاحتلال، الثاني: هو التقاليد البرلمانية. التقاليد التي ترتكز على صوت الشعب وإرادته، ولقد تجسد ذلك عبر تعليق لافتة “الحكم للشعب” في صالة البرلمان الرئيسية.
منذ الجلسات البرلمانية الأولى عقب التأسيس، وخطابات النواب الذين يمثلون مناطق مختلفة خلال النقاشات التي تمت وآليات اتخاذ القرار، تكشف عن أفكارهم حول الإرادة الشعبية. وهذا ليس على صعيد نواب نشأوا في إسطنبول التي كانت حاضرة إمبراطورية ضخمة، بل حتى نواب المقاطعات، جميعهم عبروا عن احترامهم وثقتهم بالإرادة الشعبية.
إن جلسات المجلس البرلماني الأول وما جسدته من احترام لإرادة الشعب حتى في أكثر المسائل حساسية، تستحق أن نقراها اليوم بعناية ونستخلص منها ملاحظات عديدة.
من جملة الأمثلة على ذلك، تناول البرلمان مسألة ترفيع الضباط الذين شاركوا في الدفاع الميداني، خلال الجلسة الـ٩٦ بتاريخ ٤ سبتمبر ١٩٢٢، فإن النقاشات التي دارت بين النواب على الرغم من اختلافها ومعارضتها فيما بنيها، فد جسدت احترامًا لإرادة الشعب لتكون مثالًا تاريخيًّا لما بعد. ودعونا نستعرض ما قاله النائب البرلماني عن ولاية أرضروم آنذاك، حسين عوني، والذي عارض فكرة الترفيع من حيث إعلانها لا من حيث المبدأ:
“أيها السادة، لا أعرف كيف سأوفي حق الاحترام والتبجيل تجاه الجيش المقدس الذي تمكن من طرد العدو وإنهاء الجرائم التي ارتكبها بحق البلد. ومن الواجب على الأعضاء البرلمانيين أن يعطي حق هذا الجيش القدرة الإلهية، الذي يحمي حياة الدولة ويصونها”.
السيد عوني بكلماته أشار إلى تأييده لهذه المسألة من حيث المبدأ، إلا أنه عارض نشرها في الصحف وإعلانها حسب رغبة الحكومة قبل أن تصدر عن البرلمان، واعتبر أن ذلك لا يتسق مع مبادئ احترام البرلمان الذي هو الشعب في الوقت ذاته، حيث يتابع بالقول:
“إن مجلسنا هو الذي يمثل إرادة الشعب وهو المخول بهذا الحق الرفيع، ولا يمكن لأي أحد آخر أن يسلب منه هذا الحق أو أن يستأثر به لنفسه”.
ها هي مئة عام أي قرون بأكمله يمر على هذا المجلس، نحن امام الذكرى المئوية الأولى لهذا الميراث العظيم.
٢٣ أبريل/نيسان هو عيد الإرادة الوطنية وعيد المجلس البرلماني التركي مجلس الأمة الكبير.
.
.