في القصيدة ذاتها يقول “هل تكفي المأثورات التي عمرها مئات السنين لتلبية احتياجات الدين؟ طبعًا لا”، ثم يقول أيضًا “لا يمكن ذلك بدعوى جافة، بل الأمر يحتاج علمًا، لا أرى أحدًا لها، ماذا عنك؟”. كان يشير عاكف إرصوي إلى أن معرفة التشخيص والعلاج شيء، وتطبيقه شيء آخر، حيث يحتاج إلى إرادة ومبادرة وجدارة، حيث لا يكفي التشخيص الجاف على الإطلاق.
بالطبع إن كلمات إرصوي هذه باتت واحدة من الأدبيات المهمة في نطاق الفكر التركي الإسلامي لسنوات، وبالطبع هناك من وقف مليًّا عند ذلك وجعل منه دافعًا له.
وهناك العديد ممن وقف عند مفهوم “إدراك العصر”. ما الذي قصده من “ملائمة الإسلام مع إدراك العصر؟”، هناك البعض يطرح هذا السؤال بطريقة فكرية مشككة، تكاد تصل إلى اتهام إرصوي بأنه أراد من ذلك، تطويع الإسلام وفق الإدراك “المعلوم” بين قوسين للعصر.
بغض النظر عما قيل ويقال، فإن مسألة إدراك العصر وفهمه مهمة، ولطالما يجب أن يتعرض لها الفكر الإسلامي المعاصر. هل لكل عصر إدراكه الخاص؟ وهل الفرق بين إدراكات العصور المختلفة يجب أن تولّد اختلافًا ملائمًا لها في الخطاب الإسلامي؟
إن ما قدمه إرصوي يمكن أن يكون نقطة بداية وتمهيد نحو نقاش حول إمكانية ملائمة إدراك بشري مع وحي سماوي، وهذا ليس على اعتبار إرصوي أديبًا فحسب، بل عبر شخصيته الفكرية ومسيرته وتمثيله الإسلام المعاصر في العديد من القضايا أيضًا. أولئك الذين ينتقدون عاكف إرصوي بسبب اهتمامه المبالغ في إدراك العصر وفهمه، ربما نظروا إليه في ضوء مقاربات واتجاهات محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.
حين الحديث عن إدراك العصر وفهمه، فإن المنتقدين يقبلون ضمنيًّا بالتالي: إدراك عصرنا مختلف عن إدراك العصر الذي نزل خلاله القرآن، ومتأخر عنه زمنيًّا ودينيًّا أيضًا، ومن أجل تهيئة هذا الإدراك بالقرآن، يجب التصالح مع هذا الإدراك.
لا أحد يسأل عن ضرورة التصالح مع الإدراك من أجل تهيئته لخطاب ما وتطويعه له، لأنه أمر بديهي. لكن بقي سؤال؛ هل فعل القرآن شيئًا مختلفًا في الحقبة التي نزل فيها؟ ألم يهيأ القرآن مكة أولًا للخطاب الإسلامي، ثم المدينة، ومن ثم البلاد الأخرى؟ الذين يخاطبهم القرآن بشر وإدراكهم بشري في النهاية، ولم يكن هناك ما يرغم الناس على أن يتخلوا عن منظومة فهمهم وإدراكهم لأول وهلة يسمعون بها القرآن يخاطبهم في قضايا ما. لكل جيل وعصر بل ولكل فرد أيضًا فهمه وإدراكه الزائل، وفي النتيجة فإن القرآن يتعامل مع هذا الإدراك البشري الزائل. ولذلك يقول المولى في القرآن “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه”. وتطبيق ذلك على ضوء عصرنا لا يعني أن القرآن قد تبدل أو أن كلام المولى اختلف، بل يعني أن القرآن يتم التعبير عنه بلغة كل قوم بشكل يتناسب مع معناه الصحيح ومؤدّاه.
حينما لا يتم إدراك هذه النقطة المتغيرة من زمن لزمن وعصر لعصر، يتم وضع تفسيرات بشرية إلى جانب كلام الله، ثم يأتي زمن ويقدّس الناس تلك التفسيرات ويجعلونها حرفية ككلام الله. وبالمقابل ليس من الضروري طبعًا حتى نتمكن من رؤية هذه الحقيقة الواضحة، أن نقبل مزاعم المؤرخين الذي يعتبرون أن المحتوى القرآني تحدث بمجمله عن حقبة تاريخية بعينها، ولم يخبرنا نحن وعصرنا بأي شيء. إن القرآن هو في النهاية وحي من عند الله صاحب العلم المطلق، ولا يمكن ربطه بزمن أو تاريخ أو مجتمع ما، وبالتالي لا يمكن اعتبار جميع من يخاطبهم القرآن أنهم يمتلكون فهمًا وإدراكًا مطلقًا.
لا يمكن في الحقيقة أن نساوي بين الاجتهادات الفردية النابعة عن إدراك فردي خلال التعامل مع الخطاب القرآني، حتى بين المسلمين الأوائل. وبالطبع هناك اختلاف من حيث التأثير في قلوب وعقول من يخاطبهم القرآن، وهناك الكثير من الاختلافات على صعيد الاعتبار التاريخي فيما بنيهم. وحينما نربط إدراك مخاطَبي القرآن بالسياق التاريخي على أساس الاختلاف، فإننا بالتأكيد لا نقصد مقاربات بعض المؤرخين التي تنظر للقرآن على أنه نص تاريخي.
من المثير للاهتمام في الواقع، أن الذين ينتقدون ملائمة الإسلام مع إدراك العصر وفهمه، يفترضون عن غير قصد منهم نوعًا من “الإدراك الخارق” الذي يتعامل مع الخطاب القرآني دون اعتبار تاريخ ومجتمع في جميع الأوقات. وبناء على تصورهم هذا، فإنهم لا يحتاجون لتكليف أنفسهم جهد العناء في ملائمة الإسلام مع إدراك العصر. لكن لن يكون هناك مفر في هذه الحالة من مواجهتهم لحالة متقاعسة وخالية من الحركة باسم الإسلام. إنه موقف إطلاقي بشري غير محق، باسم الإسلام الذي هو وحي سماوي ومصدر مطلق.
ومع ذلك، فإن إرصوي لم يقصد من طرحه أن يتم إلباس الإسلام حلة الإدراك العصري، بل على العكس إلباس الإدراك العصري حلة الإسلام. ولا يمكن وصف إدراك ما بأنه إسلامي قبل أن يتغير وينصبغ بصبغة الإسلام. خلاصة القول أن الإدراك الذي سنلبسه عباءة الإسلام هو إدراك عصرنا، وإلا فما علاقتنا نحن بالعصور الأخرى.