ها هو شهر رمضان يطل علينا من جديد وله الصدارة، بعد ١١ شهرًا مضت أتم فيها دورته الزمنية.
دعونا لا نقلْ عنه ضيفًا ونتجاوز الحد في اعتبار أنفسنا أهل البيت وأصحابه. بل نحن الضيوف، ورمضان إنما هو سفير من قبل صاحب البيت الأصلي. وربما رمضان يذكرنا بدوره أننا مجرد ضيوف في هذه الحياة.
إن رمضان عبر جميع قواعده وأجوائه وتفاصيله وبركاته، ومن خلال ما يرافقه من دعوات وصلوات وعبادات وعادات؛ يذكرنا بثوابت هذه الحياة ويعلمنا مرة أخرى لو نسينا أو غفلنا.
شهر رمضان هو الثابت الذي لا يتغير، أما المتغير باستمرار فهو نحن. في كل رحلة عبر دورته الزمنية الـ٣٣ عامًا، يمتلك استعدادًا نابعًا من كونه سفيرًا؛ يذكّرنا عبر ثوابته بصاحب الملك المطلق.
حينما يأتي لا يبدو أن شيئًا قد تغير فيه، إلا أن هناك أشياء تتغير فينا. على الرغم من أننا لا نستقبله بنفس الحماس والمعنى والأجواء الروحية، إلا أنه يأتي كل مرة بنفس روحه ومعناه وجوه الخاص.
يأتي رمضان وسط غفلتنا الدنيوية كي يعلمنا أن نفس الإنسان ليست لعبة يتحكم بها، وأن ورحه لا تخضع على الدوام لرغباته. يعلّمنا كل مرة أن الإنسان ليس رهن رغباته الخاصة، وأنه ليس محكومًا لقيود الهوى والأهواء، ولا لقيود التاريخ أو الجغرافيا والمجتمع والأنا، بل يمكنه كسر تلك القيود بواسطة الحب والإرادة؛ وفي ذلك الوقت يمكن أن يصل الإنسان حينها إلى صفة أشرف المخلوقات.
حينما يتمكن الإنسان من السيطرة على الأنا من خلال الحب الذي يتذوقه، فإنه بالتالي يسهل تحرره من قيود التاريخ والجغرافيا والمجتمع، وحينما يدرك الإنسان بأن ما يطلبه الله منه أوسع من الإمكانيات التي منحها له، ينساب نحو الهجرة للحرية. هذه الهجرة تبدأ في ثنايا النفس البشرية قبل أي شيء. وإن الصوم هو الخطوة الأولى في هذه الهجرة، حيث يحرر الإنسان من نفسه وبالتالي من قيود التاريخ والجغرافيا والمجتمع.
بعد أن تشق هذه الهجرة طريقها انطلاقًا من تحرر الإنسان من الأنا والجغرافيا والتاريخ والمجتمع، فإنها تعود مرة أخرى إليها جميعًا، لكن بمفردات اكتسبها من هجرة الصوم كالرحمة والإيثار:
يرحم نفسه البشرية، ويرى من هو أضعف منه حالًا من البشر.
يتعرف على الفرق الذي بينه وبين الناس في الجغرافيات الأخرى، فيفهم حالهم ويقيم معهم الروابط، فيتراحمون فيما بينهم.
يدرك أن الناس في الأزمنة التي سبقت زمانه قد عاشت التجربة ذاتها، فيقيم معهم روابط من نوع خاص. “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم”. وذلك يشمل إقامة أواصر الرحمة والتراحم مع جميع الناس على نطاق التاريخ والجغرافيا على حد سواء.
يبدأ الصوم عبر انسحاب الإنسان من نطاقه الدنيوي، ليفتح له الطريق بشكل أوسع نحو نظيره الإنسان، ونحو تاريخه ودنياه وربه. حينما يشهد الإنسان انفراجات دون أن يعيش هذا الانسحاب، وحينما ينسى الكفاح الذي خاضه والصراعات التي دخلها والتمايز بينه وبين البشر؛ يأتي رمضان في ظل هذه الفوضى كي يذكره كل عام بما غفل عنه.
يأتي رمضان ويجدنا في حال مختلفة كل عام، ولا شك أنه وجدنا هذا العام في حال مختلفة. منذ فترة طويلة والعالم كله قد دخل تقريبًا بحالة صوم قبل أن يأتي رمضان. يصوم حيث يمنع نفسه عن الكثير من الأشياء التي اعتاد عليها، إما طواعية وإما رغمًا عنه بسبب حظر التجول أو التقييدات والإغلاقات. هناك الكثير من الأشياء والمعاني التي جعلت الناس تصوم بمعنى المنع؛ حتى ولو بقيت في بيوتها وقضت وقتها وكأن شيئًا لم يكن.
بسبب الإغلاق الاجتماعي الذي نعيشه الآن، لم نتمكن من استقبال رمضان هذا العام، بالحس والحضور الاجتماعي ذاته من كل عام. حُرمنا هذا العام من أجواء الإفطار الجماعي، والتراويح والتسوق والتجمعات التي باتت عادات لا مفر منها في رمضان. ولا شك أننا نشعر بمأساة وحزن عميقين إثر ذلك. لكن ومع ذلك، علينا التفكير بأن هذه العادات ذاتها ربما علينا الصوم عنها، لا سيما في رمضان، فلربما كانت هذه العادات بعدًا آخر في إبعادنا عن المعنى الحقيقي لشهر الصيام.
مما لا شك فيه أنّ الحضور الاجتماعي الناشئ عبر التاريخ والثقافة في رمضان، يتمتع بميزات وظيفية للغاية، لكن على الرغم من ذلك يمكن أن يؤثر بشكل يفسد المعنى الحقيقي من رمضان. حيث إن شهر رمضان لا يعني حضورًا اجتماعيًّا في الأصل، بل هو انسحاب من الأنا كي يعود الإنسان لذاته، ليفهمها ويحاول تغييرها نحو الاتجاه الصحيح. حتى صلاة التراويح لم يكن يقيمها الرسول بشكل جماعي، بل فرادى، وإنما أقيمت جماعة للمرة الأولى في عهد سيدنا عمر، ولا شك أن في ذلك خير، لكنها في النهاية ليست فرضًا.
ليس هناك أي اعتراض لنا بالطبع على شكل صلاة التراويح اليوم التي أخذت منحى ثقافيًّا، حيث تتطور الثقافة عبر هذه الطرق، لتخلق فيما بعد أشكالًا مختلفة؛ لكن بشرط عدم القضاء على نقطة الأصل والمرجع.
هناك عبادة أخرى في رمضان على الرغم من كونها مهمة للغاية إلا أنها ليست منتشرة بشكل كبير، ألا وهي الاعتكاف. ويعني الاعتكاف انقطاع الإنسان لفترة من الوقت عن جميع مشاغل الدنيا، متجهًا نحو العبادة والتفكر. ومع ذلك فإن الاعتكاف من بين أكثر العبادات أهمية التي يتم إهمالها في رمضان. لكن أعتقد أن الإغلاق الذي نعيشه بسبب الفيروس سيمنحنا فرصة الاهتمام بهذه العبادة بشكل أكبر.
طبعًا الشيء الأكثر أهمية والأهم على الإطلاق أن رمضان كما هو شهر الصيام، فإنه شهر القرآن أيضًا.
لا شك أن القرآن الكريم هو كتاب هداية يوجهنا نحو الطريق المستقيم في كل صفحة من صفحات حياتنا. وما يزيد شهر رمضان بركة، هو نزول القرآن الكريم فيه. وإن الطريق الأصح لفهم هذا المعنى، هو قراءة القرآن بتفكير وتأمل شديدين.
.
بواسطة / ياسين اكتاي