بما أنه هزّ البشرية بأكلمها وأعاد الناس إلى أنفسهم، وجعلهم يتأملون في معنى حياتهم ووجودهم في هذه الدنيا؛ فإن فيروس كورونا بهذه الأبعاد يعتبر معلّمًا مؤثرًا إلى آخر الحدود.
ولو أن هذا الفيروس المعلم كان غير كافٍ في تنبيهه وتذكيره، فهناك شهر رمضان الذي يأتي كل عام بشكل روتيني، فيذكرنا بوجودنا في هذا العالم، يذكرنا بعلاقتنا مع الله والحياة، والناس الآخرين وحقوقهم، وهو بكل هذه المعاني يجذبنا نحوه ونحياه ونستذكر معانيه ونتشربها.
هناك البلد الأمين المليء بالعبر بكل ما يحويه من وقفات وذكريات ومقدسات، تجعل الإنسان يستلهم منها ألف عبرة وعبرة.
لكن للأسف حينما لا يريد الإنسان أن يصغي لذلك أن ينظر له فيتأمل فيه، فإن تلك المعاني لن تعلّمه شيئًا ولن تخبره بشيء.
في أول يوم من أيام رمضان الذي يأتينا وسط محنة وابتلاء الفيروس والوباء، استيقظنا على خبر وفاة العالم السعودي عبد الله الحامد أحد أهم العلماء المسلمين المعتقلين في البلد المبارك، وهو في الوقت ذاته من أكبر المدافعين عن حقوق الإنسان والمناضلين في سبيل شرف الإنسانية، توفي داخل معتلقه إثر إهمال طبي متعمد وواضح.
يُعرف عبد الله الحامد المعتقل في السعودية منذ العام 2012 بشكل متواصل، بشخصيته الإصلاحية، وشخصيته الثقافية متعددة الجوانب في الوقت ذاته. كما أنه شاعر جيد وكاتب جيد وشخص عاطفي، وهو لم يتم اعتقاله إثر معارضة راديكالية للنظام السعودي أو تأسيس تنظيم ما ضده. إنه كان فقط يدعو لضرورة إصلاح إداري في السعودية، لكن دون تدمير النظام القائم او الإطاحة بالأسرة السعودية، بل عبر إجراءات تتم تحت سقف النظام السعودي الموجود. فضلًا عن أنه أكد على ضرورة التركيز بشكل أكبر على مبدأ الشورى، وهذا في الواقع الذي كان يدعو له الراحل خاشقجي، الذي هو الآخر لم يكن معارضًا بمعنى الكلمة.
خاشقجي قبل أسبوعين فقط من مقتله داخل قنصلية بلاده بإسطنبول، ذكر خلال مقابلة تلفزيوينية حينما كان الحديث يدور حول العلماء المعتقلين في السعودية، اسم عبد الله الحامد تحديدًا، مشيرًا إلى أنه لا يفهم سبب اعتقاله، وقد أشاد بفكره الإصلاحي وثقافته.
خاشقجي في اللقاء ذاته وفي لقاءات أخرى غيره، أفاد بأن المعتقلين الآن في السعودية من علماء ومفكرين، تحت ظروف صعبة وإهمال طبي متعمد، تهمهم بالإجمال أخف من عبد الحامد. أمثال سلمان العودة وعوض القرني وعلي العمري، الذين حبّبوا الشباب الإسلامي بالإسلام بما كتبوه من كتب، وكانوا وجوهًا لطيفة من وجوه الإسلام. هؤلاء لم يكن سبب اعتقالهم لأنهم عارضوا النظام الحاكم في السعودية، فضلًا عن أن يكونوا متمردين أو مثيرين للتمرد وداعين له. ربما تهمهم يمكن أن تكتب ضمن أغرب تهم التاريخ؛ حيث تهمتهم الوحيدة هي السكوت، يعني سكتوا عن تأييد ممارسات ولي العهد ابن سلمان من حصار قطر والحرب في اليمن وغير ذلك من الممارسات المبهرة التي يقوم بها، جريمتهم أنهم سكتوا فقط. هذا الصمت أو السكوت كان دليلًا على معارضتهم ومن ثم وضعهم في السجون. حيث كان ولي العهد يتوقع منهم التصفيق والثناء على ما يوقم به، وسوق الأحاديث والآيات الداعمة له.
تخيلوا أن خاشقجي تم اعتباره متمردصا يستحق القتل لمجرد الثناء على الحامد. تخيلوا أن حرية التعبير عن الرأي بينما هي بدهية مسلّمة، فإن مجرد الصمت في السعودية ليس له حرية. حيث تعتبر مجرمًا ليس لأنك تحدثت، بل لأنك لم تتحدث.
يقول الراحل عبد الحامد مقابل ردة فعل السلطات هناك على ما قدمه من دعوات إصلاحية؛ “حينما تقوم بحبس أولئك الذين يطالبون بالإصلاح عبر الخطابات الإسلامية، وتقتلهم داخل السجون، فإنك بذلك تفتح الطريق أمام تغيير ثوري سيؤثر عليك لا عليّ”.
بالنسبة لهولاء العلماء لم يتمكن ولي العهد السعودي الذي كان يحاول بيع الإسلام المعتدل بالكلام المعسول، أن يوجه لهم تهمًا من قبيل التشدد أو التعصب الفكري أو التطرف الديني، فهؤلاء تحديدًا لا يمكن اتهامهم بذلك. سلمان العودة على سبيل المثال وإلى جانبه بقية العلماء المعتقلين، كانوا أسماء صادحة ضد التيار الوهابي المتشدد في عز أيامه حينما كانت المملكة قابعة تحت تأثيره. حتى حينما كان القانون ينص على منع قيادة المراة للسيارة، كانوا يعتبرون ذلك سخيفًا بل وينقدونه بشكل ساخر وأن المرأة لم تُمنع يومًا ما مثلًا من ركوب الجمل. بل حتى حينما كان يتم جرّ الشباب بدراية استخباراتية نحو ما يسمى الجهاد في أفغانستان، كانوا يعتبرون ذلك ليس جهادًا، بل يرون الجهاد في تحصيل العلوم، وتطوير الذات، وتحسين وضع البلاد، وخدمة الناس.
إن هؤلاء العلماء في الحقيقة، كانوا يكشفون عن خارطة الطريق التي يحتاجها العرب اليوم من أجل التغيير، من أجل أن يحيوا ويخرجوا من الحالة الضبابية التي هم فيها. لكن بعد ذلك ما أسوأ ان يتم سجنهم لمجرد أنهم يريدون إحياء الناس، ما أفظع حينما يقابلون بسجنهم وقتلهم. بل ما أشد شبه قاتليهم بأولئك الأقوام الذين كانوا يقتلون أنبياءهم.
ما أبشعها من جاهلية أن تقوم بإسكات الصوت الذي يدعوك لتحيا، وتقتل صاحبه!.
.