ما هي مشاعر قوى التيار المدني في مصر، ودعاة الدولة المدنية، في ليلة محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، وقناة “العربية” تعلن نجاح الانقلاب وهروب أردوغان؟!
هذا سؤال تبادر إلى ذهني بينما كنت أهمّ بكتابة هذه السطور، وقد راعني أنني لم أنتبه إلى ما كتبه أي منهم، وإن كنت أجزم أن أحداً من رموز هذا التيار، الذي شكل ما سمي بجبهة الإنقاذ في مصر، لم يندد بما حدث، باعتباره انقلاباً عسكرياً على رئيس مدني منتخب، جاء إلى موقعه بإرادة الناس، وفي انتخابات لم يشكك في نزاهتها إنس ولا جان!
لقد انتبهت في هذه الليلة لكتابات المبشرين الليبراليين العرب، الذين تخرجوا في جامعات أمريكا، أو الذين يدرسون السياسة فيها، وقد كانوا في سعادة وحبور، لأن أردوغان أصبح في “خبر كان”؛ فقد تمكن الانقلاب العسكري من الإطاحة به. ودخلت معلقاً على صفحة الدكتور مأمون فندي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون، أكثر من مرة، لا لكي أذكره بقيم الليبرالية، وضرورة احترام إرادة الناخبين، لقناعتي الخاصة بأن القوم عندما يتعلق الأمر ببلادهم، فإنهم ينكرون كل هذا، ولكن لكي أؤكد له أن القصة لم تتم فصولاً، وأن عليه أن يتريث ولا يغامر بإبداء فرحته، فقد يصله نبأ احباط المحاولة الانقلابية بعد قليل!
وعندما نعلم أنه أستاذ لسيف الإسلام القذافي، وأن الأخير درس العلوم السياسية في جامعة جورج تاون، فلا يجوز أن نتعجب بعد ذلك، من أنهم كمن يؤمن بالديمقراطية على حرف، فإن جاءت به أعرض ونأى بجانبه وإن كان الالتزام بقواعده سيصب في مصلحة خصمه كان يؤوسا.
وعندما تحقق ما توقعته وبدأت الأخبار تتداعي بخروج جماهيري لمواجهة الانقلابيين وايقاع الهزائم بهم، وإعلان أردوغان أنه في طريقه للمطار وأن على الأتراك أن يأتوا إلى هناك، كانت هذه فرصة لأسأل صاحبنا عن موقفه الآن وقد هلل وكبر لانقلاب عسكري على خيار الشعب، مع أنه أستاذ للعلوم السياسية، عندئذ لم يجد بداً من أن يوقف هذه المشاكسة المرهقة لوجدانه إلا بحظري!
وقد تذكرت الآن أنني نسيت متابعة هؤلاء الذين يدعون انحيازهم للدولة المدنية في هذه الليلة الليلاء، لكن المؤكد عندي أنهم لم يكونوا ضد ما يحدث، وهو أمر يؤكد إيماناً قديماً لي بأنه لا صلة لهم بالمدنية، دولة وممارسة. فقد استدعوا العسكر ليزيح الرئيس المنتخب في مصر بحجج فارغة، ثم بدوا بعد هذا في دهشة لأن يحكم عبد الفتاح السيسي، مع أن الانقلاب العسكري وقع في يوم 3 تموز/ يوليو، وخرجوا يحتفلون به!
فحديثهم وقتئذ عن الدولة المدنية، يشبه تماماً خروج خليفة حفتر هذه الأيام بملابسه العسكرية وهو يتحدث عن ضرورة الحكم المدني لليبيا، حتى صارت فكرة “الدولة المدنية” تحتاج بفضلهم إلى تحرير وتوضيح للمعنى الذي كنا نعتقد أنه مفهوم بالسليقة!
حديثهم وقتئذ عن الدولة المدنية، يشبه تماماً خروج خليفة حفتر هذه الأيام بملابسه العسكرية وهو يتحدث عن ضرورة الحكم المدني لليبيا، حتى صارت فكرة “الدولة المدنية” تحتاج بفضلهم إلى تحرير وتوضيح للمعنى
التماهي مع خطاب العسكر:
ما الذي ذكرني بالمحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري في تركيا الآن ولسنا في الذكرى السنوية لها، ليصبح من المناسب استدعاء الذكريات؟!
إنها حالة التماهي بين دعاة الدولة المدنية في مصر، وخطاب الإعلام العسكري، الذي يعارض أردوغان ويسخر منه ويلصق به كل نقيصة وفشل. وإذا كنا في “مقال الجمعة“، أكدنا على أن حالة العداء للتجربة التركية مردها إلى النموذج المدني الناجح الذي يكشف عند المقارنة النموذج العسكري بنسخته الرديئة، فما الذي يجعل من ينتمون للثورة، وشاركوا في يناير، يتماهون مع هذا الخطاب، مع أنهم لا يزالون يتحدثون باسم “الدولة المدنية”، وعلى أساس أنهم كانوا من أهل الغفلة، والمختومون على أقفيتهم، في 30 حزيران/ يونيو وما بعدها؟!
أردوغان يقدم في أزمة كورونا نموذجاً ملهماً للرئيس المدني المنتخب، والبديل لانهيار الرأسمالية في عقر دارها، والتي تبدت سوءاتها للناظرين
إن أردوغان يقدم في أزمة كورونا نموذجاً ملهماً للرئيس المدني المنتخب، والبديل لانهيار الرأسمالية في عقر دارها، والتي تبدت سوءاتها للناظرين. وبدلاً من أن يتم الالتفاف حول هذه التجربة، لتوضيح معنى الدولة المدنية من أقصر الطرق الدعائية، ولرد العدوان عليها كفكرة من قبل المؤسسة العسكرية، فإنهم يتعاملون مع أردوغان بحسبانه شأناً اخوانياً، دورهم أن يسقطوه ولو كانوا سينتصرون لحكم العسكر، وهم يستغلون بذلك الحياء الذي يمنع الآخرين من الدفاع عن التجربة، حتى لا يتهموا بأنهم عملاء لأردوغان يتقاضون أجراً على مواقفهم!
وذلك يستدعي تجربة الحاكم الذي يشتري الأقلام في الخارج، والتي بدأها عبد الناصر في مصر، وأخذت بها بلاد الصمود والتصدي ومن العراق إلى ليبيا، وإن نافست السعودية في هذا المجال، ومن بعدها الإمارات الآن، الأمر الذي لم يثبت في حق تركيا، فضلاً عن أن حاجز اللغة، يمنع متابعة أهل الحكم في أنقرة لما يكتب عن بلادهم باللغة العربية سواء مع أو ضد!
وعموما هو خجل لا مبرر له، وهو يعطي لأنصار الانقلابات العسكرية فرصة للتمدد، بمن في ذلك “أولادي المغرر بهم” بصوت الرئيس السادات، الذين يتحدثون عن الدولة المدنية، وقد تخلصوا من عقولهم ليضعوا مكانها “بيادة”، تكشف عن توجهاتهم العسكرية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
التخلي عن العالقين:
وفي الوقت الذي يتخلى فيه الحاكم العسكري في مصر عن العالقين المصريين رغم ظروفهم البائسة، ويرفض استقبال طائرات لتنقلهم لمصر مجاناً، لأنه يطمع في “إتاوة” على كل رأس في حدود ألفي جنيه في الليلة حجراً في أحد الفنادق، قامت تركيا بإعادة أكثر من ستين ألف تركي عالقين في كثير من الدول. صحيح أن دولاً خليجية فعلت ما فعله أردوغان، ودولة الكويت أرسلت طائرة لنقل مواطن واحد كان عالقاً في السنغال، لكن دائماً يكون الرد على أن مصر ليست في ثراء دول الخليج الغنية، لكن تركيا كمصر ليست دولة غنية، واهتمامها بالشعب التركي إنما يرجع إلي قيمة الحاكم المدني المنتخب، الذي جاء إلى موقعه بإرادة الناس، وليس على ظهر دبابة!
لقد نشرت تغريدة على تويتر، عما فعلته الدولة التركية تجاه أحد المواطنين الأتراك في السويد، فانطلقوا يشككون في الموقف، وإذا كان لمثلي أن يتفهم أن يكون هذا موقف جماعة السيسي لأنه يفضح عجز صاحبهم وهوان الشعب عليه، فإن اللافت أن يحاول البعض من غير شيعته تكذيب الواقعة، والبحث عن ثغرات في الرواية، والتي لم يسمح حيز النشر لذكرها كاملة!
لقد كتبت مواطنة تركية منشوراً يفيد إصابة والدها بفيروس كورونا وعدم علاج المستشفيات السويدية له، ليرد عليها وزير الصحة التركي: “عزيزتي ليلى.. لقد سمعنا صوتك، وستأتي طائرة إسعاف لنقل والدك إلى تركيا.. كل شيء جاهز من أجل والداك.. المشافي والأطباء”!
موقف مؤلم لكل سيساوي ينحاز لمنقلب على الشرعية، لكن لا ينبغي أن يكون كذلك لدعاة الدولة المدنية في مصر إن كانوا صادقين فعلا وليسوا منتحلي صفة!
موقف مؤلم لكل سيساوي ينحاز لمنقلب على الشرعية، لكن لا ينبغي أن يكون كذلك لدعاة الدولة المدنية في مصر إن كانوا صادقين فعلا وليسوا منتحلي صفة
قالوا كيف يقال إن السويد رفضت أن تعالج إنساناً؟… إنها عقدة الخواجة إذن؟.. فهل لم يسمعوا عن دول غربية تخلت عن كبار السن ولم تجعل لهم الأولوية في تلقي العلاج؟!
ولو أرادوا الحقيقة لبحثوا عنها، فما كتبته “ليلى” أن والدها ظهرت عليه أعراض كورونا قبل 11 يوماً، وأنهم اتصلوا بالمستشفى فتقاعست الإدارة، وبعد ذلك حضر طبيب وكشف على والدها، قبل أن يأمر بنقله للمستشفى، لكنهم هناك أخرجوه ليقضي الحجر في منزله بدون رعاية!
أي نعم هذا ما حدث، أو على الأقل هذا ما كتبته “ليلى”، وقد تكون قد افترت على دولة السويد العظمى، لكنها كتبت أن والدها لم يتلق العلاج في السويد، والمهم هو في هذه الاستجابة السريعة من جانب الحكومة التركية!
ثم فيما اللجاجة؟ وطائرة الإسعاف التركية طارت بالفعل للسويد ونقلت الأب وأبناءه إلى تركيا، وتم تصوير ذلك كله بالفيديو، وهو أمر لم يفعله الحاكم العسكري غير المنتخب في مصر، لأنه ليس معنياً بالناس، فهو يزور الانتخابات ولا حاجة له بهم!
إن أردوغان ليس شأناً اخوانياً.. ولكنه شأن يخص الدولة المدنية، ويمثل نموذجا ملهما للحاكم المدني المنتخب الذي أنهى الحكم العسكري العضوض!
إنه رمز لتجربة تخصنا نحن.
.