يتحد العالم بأسره في مواجهة فيروس كورونا عبر مفهوم مشترك من الحس والبحث عن الأمان، وفهم جدية الأمر، وسعي حثيث عن التضامن على شكل استراتيجية مشتركة بين الجميع. يعلم الجميع أن هذا الفيروس هو مشكلة العالم كله، وأنه حتى ولو تمكنت دولة ما من السيطرة على هذا الفيروس؛ فلا طريق للنجاة المطلقة ما لم يتم القضاء عليه في وقت واحد عند بقية الدول كلها. ومن الطبيعي أن يكون هناك وعي بضرورة اتخاذ تدابير طارئة واستثنائية، تحتم على الجميع التركيز على مواجهة هذه الأزمة بجهود مشتركة، وتأجيل نزاعاتهم واختلافاتهم لوقت آخر.
لكن على الرغم من كل ذلك، فإن بعض الدول وبعض الأشخاص يتصرفون وكأن هذه الأزمة لا تعني لهم شيئًا، ولذا يجرون لاهثين وراء سرابهم.
تواصل دولة الإمارات تنفيذ مخططاتها في جنوب اليمن خطوة خطوة، غير عابئة بأي أزمة إنسانية هناك، ساعية إلى تقسيم اليمن. في الواقع لو أعرنا انتباهنا لوجدنا أن أرقام الوفيات التي حصدها فيروس كورونا الذي يعتبر القضية الأهم على أجندة العالم في الوقت الحالي، ليست أكثر من عدد الأطفال الذين قضوا بسبب الجوع فحسب في اليمن وخلال بضعة شهور، جراء الحرب القذرة التي تديرها السعودية والإمارات. بالطبع لقد استنفر العالم بأكمله عبر آلية دفاع مشتركة على صعيد وفيات كورونا، إلا أن الوضع على صعيد وفيات الأطفال في اليمن مختلف، حيث لا يموتون بسبب فيروس بل عبر أولئك الذين جاؤوا لليمن بحجة إنقاذه، بيد أنهم ينهبونه ويحاولون تقسيمه.
في نفس السياق، هناك في ليبيا الانقلابي حفتر المدعوم من قبل الإمارات، بدلًا من أن يتوقف لحظة بسبب الفيروس والوباء المنتشر، ويتذكر أنه إنسان وأن عليه التضامن مع الآخرين لمواجهة الوباء؛ فإنه على العكس تمامًا راح يستغل انشغال العالم بذلك ليبدأ بشن هجماته على طرابلس. وككل مرة يضرب أهدافًا مدنية، ويرتكب جرائم فوق جرائمه الكثيرة. حتى في اتفاقية برلين التي هي آخر الاتفاقيات لوقف إطلاق النار، نجده قد انصاع لذلك مرغمًا بضغط روسي. لا يمتلك الآن أي حجة ودافع لعدم الالتزام بوقف إطلاق النار، بل الحجة الوحيدة التي يملكها هي انشغال العالم ولا سيما تركيا بمواجهة فيروس كورونا، ليظن واهمًا أن لن يقدر عليه أحد ويمنعه من الاستيلاء على ليبيا بمفرده.
لكنه أخفق هذه المرة وعلم أن حساباته كانت خاطئة، واستسلم بشكل يثير الشفقة، أمام المقاومة العنيفة التي تلقاها ردًّا على هجماته. لأن تركيا حتى ولو كانت مشغولة بمواجهة الفيروس، إلا أنها لا تزال موجودة. إنه لم يعبا بتركيا التي تعتبر أكثر الدول نجاحًا في مكافحة فيروس كورونا حول العالم. ونجاحها لا يتمثل في إيقاف انتشار المرض والتغلب عليه فحسب، بل في إظهار قوة الدولة من حيث التعامل مع المشاكل والأزمات بحكمة، والتغلب عليها بكل قوة ونجاح.
بفضل الدعم العسكري والتقني الذي قدمته تركيا لحكومة الوفاق الشرعية في ليبيا، عبر اتفاقية شرعية للغاية بل عبر الاتفاقية الشرعية الوحيدة في الساحة الليبية؛ رأى حفتر حق اليقين أنه ارتكب خطأ فادحًا عبر انقلابه الكبير الذي هو ربما آخر انقلاب له في حياته.
لقد تمكنت قوات حكومة الوفاق الوطنية من صد هجمات حفتر، والانتقال إلى هجوم مضاد خلال وقت قصير، والسيطرة على الحدود التونسية المجاورة، عبر استعادتها ما مجموعه 7 بلدات على رأسها صبراته وصرمان والعجيلات. والآن نجد أنها لم تتوقف عند هذا الحد، بل تتجه نحو ترهونة التي تقع على بعد 50 كيلومتر جنوبي العاصمة طرابلس.
وتعتبر ترهونة أهم قاعدة عسكرية لحفتر في غرب ليبيا، من أجل تنفيذ مخططه الانقلابي الذي يبدأ من جنوب طرابلس وصولًا للاستيلاء على كامل ليبيا. وإن حصار قاعدة بهذه الأهمية يعطي بدوره أملًا كبيرًا لأهالي جنوب طرابلس بان نهاية حفتر قد اقتربت. حيث إن تحرير ترهونة يعني قصم ظهر حفتر تمامًا في غرب ليبيا. لقد باتت قوات الوفاق هي الطرف المطارد، وإن تحريرها الذي بات وشيكًا لترهونة، سيفتح الطريق لها أمام الجفرة في الجنوب، ومن ثمّ أجدابيا في الشرق التي تعتبر نقطة انطلاق حفتر الأساسية.
لقد صرح رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية خالد المشري، أنهم في صدد القضاء على ميليشيا حفتر بشكل كامل حتى نهاية رمضان.
إن حفتر الذي لا يثق إلا بقوته المسلحة قد دخل الآن في مرحلة نهاية الطريق في ليبيا. قبل يومين فقط فاجأنا حفتر وبتخطيط إماراتي راح لينقلب على مجلس نواب طبرق الذي يستمد شرعيته منه أصلًا، ليعلن نفسه الحاكم الوحيد لكل ليبيا، طالبًا من الشعب الاعتراف بذلك.
لقد فاجأنا لأن شخصًا مثله لا يزال يخسر باستمرار على الأرض وقد فقد كل شيء، لن تنفعه خطوة كهذه. إنه من خلال هذه الخطوة أعاد تذكير الجميع بتاريخه الحافل بالانقلابات. أما بالنسبة للشعب الليبي الذي طالبه حفتر بإطاعته والإذعان له، فقد أظهر على الفور ردة فعل أقوى من أي وقت مضى. وكأن روح 15 تموز في تركيا قد تجسدت في ليبيا. أما على مستوى المجتمع الدولي فقد لاقت هذه الخطوة ردًّا شديدًا من الولايات المتحدة وأوروبا.
إن المشهد القائم الآن يرسم بوضوح معالم نهاية حفتر الذي ما استطاع أن يستمر حتى الآن إلا بدعم سخي من الإمارات ومصر وفرنسا. لكن عل الرغم من أن انقلابه الأخير الذي أعلنه في خضم الخسارات التي يتلقاها؛ لا يمكن تفسيره بالعقل والمنطق، إلا أنه يحاول التمسك بإمكانية السيطرة على شرق ليبيا من خلال تقسيمها. وبالطبع إن التقسيم كان خيارًا مطروحًا بالنسبة للقوى التي تدعمه وعلى رأسها الإمارات. وإن ذلك في ظل انقطاع الأمل في السيطرة على كامل ليبيا؛ يعني أن الأمور قد وصلت إلى الاكتفاء بحزء منها.
في الحقيقة هناك جانب ذو معنى للقضية، وهو أن حملة حفتر الساعية إلى تقسيم ليبيا، تزامنت مع تاريخ إعلان الملك إدريس السنوسي الدستور الذي يسعى لتوحيد ليبيا الفيدرالية، في 26 أبريل 1963.
نهاية لا بد من القول بأن حفتر على الرغم من أن ورقته الأخيرة تسعى نحو تقسيم ليبيا، لكن يبدو أن السحر سينقلب على الساحر وسيكون ذلك سببًا لوحدة ليبيا بأكملها دون أن يدري.
.