يمكننا القول أن عملية الانغلاق التي يعيشها العالم بسبب كورونا، تساهم في انفتاحنا بشكل أكبر نحو الخارج أكثر من الموقع الذي نحن فيه. لا سيما من خلال مشاركة المعرفة والقصص والأراشيف والكتب، وإن الكرم الفريد الذي أظهرته جميع المؤسسات بهذا الصدد لن ينساه التاريخ. العالم الذي اعتاد على المتاجرة بالمعلومة بأثمان بالغة من منطلق “المعرفة قوة”، بات اليوم بعد هذه الانغلاقة يسهّل الوصول إلى المعلومة أمام جميع الناس.

بالنسبة لي اخترت الاطلاع على الأرشيف الخليجي تحديدًا، ولا أزلت أقرأ وأطالع حول ذلك. كما هو معلوم، فإن الأرشيف العثماني أو الإنجليزي هما الأكثر ثراء عن المعلومات حول تاريخ الخليج، الذي يتمتع اليوم بجغرافيا فعالة على صعيد السياسة العالمية. بينما يمتلك الأرشيف العثماني معلومات هائلة حتى حدود دولة الإمارات، فإن الأرشيف الإنجليزي يحتوي على معلومات تفصيلية حول الجغرافيا التي بين قطر وعُمان مثلًا. وفي حين يركز الأرشيف الإنجليزي بشكل أكبر على القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن الأرشيف العثماني مليء بالمعلومات المهمة والمثيرة حول المنطقة منذ بداية القرن السادس عشر.

لنستعرض هذه القصة من الأرشيف الإنجليزي والتي ستدفعكم لقراءة المئات من نظرائها. كتب كامبال وهو ضابط سياسي بريطاني شاب سيكون مشهورًا فيما بعد تلك الحادثة، إلى رئيسه المسؤول عنه هينيلل، كتب له من الشارقة التي هي الآن إحدى إمارات دولة الإمارات، إلى مسقط في عُمان، في 19 ديسمبر عام 1846، ما يلي:

“حسبما علمتُ، فإن سلطان بن صقر، قد زار الشيخ سعيد بن طحنون في أبو ظبي، وبموجب اتفاق تم بين الطرفين، سيتم الهجوم على جافل والخواطر وجميع القبائل البدوية المرتبطة بهما”. ثم يعرض هذا الضابط شرحًا موجزًا وبسيطًا لهذه المعلومة الاستخباراتية، ويقول أن جميع الاستعدادات والتجهيزات إنما هي من أجل إيذاء عبد الله بن راشد التابع لقبيلة الخواطر. قبل هذه الرسالة أيضًا كان كامبال قد ذكر بأن الشيخ سعيد بن طحنون أرسل الجمال والفرسان من أجل نهب خواطر والقبائل التابعة لها على جانبي الشارقة وزبيد.

لقد كان النهب الذي كان يُسمى غزوًا آنذاك جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية للبدو. لدرجة أنهم لا يمكنهم الاستغناء عنه. ولذلك يرون أنه من الضروري عقد تحالفات من أجل مهاجمة الآخرين، لكن هذه التحالفات لم تكن يومًا ما دائمة. عند الضرورة، يقوم الحلفاء الغزاة بنهب بعضهم بعضًا، والتاريخ مليء بأمثلة على ذلك. في تقاريرعمال العثمانيين في المنطقة؛ بينما كان يتم التعبير عن ذلك يجملة “كما اعتاد عليه البدو فيما بينهم” دون تصريح أكثر، فإن الإنجليز كانوا يسردون كل التفاصيل، لكن لماذا؟ لماذا تجذب تلك المنازعات التي تبدأ بسبب بضع جمال لتمتد إلى سوات؛ انتباه أناس مثل كامبال، لتصبح موضوعًا كتابيًّا مهمًا؟

السبب يعود إلى أن العثمانيين لم يكونوا يرغبون بتضخيم الأمر هدفًا في حقن دماء المسلمين، وإيقاف عمليات الغزو التي كانت بمثابة تقليد في حياة البدو. إلا أن الإنجليز كانوا يتعمدون إثارة ذلك ونشره والحديث عنه.

يعرض تقرير كامبال أنّ الشيخ طحنون بن زايد وهو الجد الأكبر لمحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، توجه بعد عملية الغزو تلك نحو دبي وأم القيوين، مشيرًا إلى أنه حقق مكاسب عديدة من ذلك.

لقد تمكن الإنجليز من بعد ذلك أن يصمموا ما يعرف اليوم بمنطقة الخليج، على طريقتهم الخاصة وبسهولة كبيرة، ولقد أتاحت مثل تلك الحوادث إمكانية كبيرة للإنجليز بهذا الصدد، ولتتحول تلك القبائل إلى دول متهادنة. لكن وبعبارة أخرى، فإن الخليج عدا بعض الاستثناءات لم يشهد تأسيس عقل دولة حقيقي للآن. بل إن العقلية التي بُنيت على عمليات الغزو والنهب محاولة شرعنة ذلك وتقنينه، نجدها اليوم تواصل غزوها بنفس المنطق سواء في البحر الأحمر أو اليمن أو مصر وصولًا إلى ليبيا. هذه العقلية التي أزهقت أرواح عدد ليس معلوم من السودانيين في حرب اليمن التي بدأتها، تراها اليوم تسعى نحو حشد جنود سودانيين وتشاديين نحو ليبيا.

لكن لماذا؟

السبب الآن بالطبع يختلف عن السابق، فبالتأكيد ليس من أجل الحصول على أساسيات الحياة اليومية، ولا من أجل بضعة جمال، ما يعني أن هناك هدفًا آخر. هذا الهدف هو خدمة أسيادهم في حروب التقاسم على المنطقة، أسياهم الذين أهانوا حتى حروب أجدادهم وثقافتهم.

هذه العقلية التي تخصص معظم عائداتها النفطية لغرض التسلح، قد وصلت اليوم إلى مرحلة النفاد. حيث أن الانخفاض في عائدات النفط والذي بدأ منذ العام 2014، جعلهم يقعون في حيرة ويتكلون بشكل أكبر على عقل وإرشاد أسيادهم. بينما كانوا يضخون أموالهم في السابق على تمويل هذه الحروب، فإنهم اليوم مع انخفاض عائدات النفط تجدهم يسخّرون مواردهم وجميع ما يملكون لأسيادهم في الغرب.

خلاصة القول، إن العقلية البدوية التي تتغذى على الحقد والكراهية ومشاعر الانتقام لعصور، أكثر ما تفتقده هو النظرة الاستراتيجية والنظر من بعيد. أولئك الذين هُزموا في اليمن يسعون الآن وراء بطولة في ليبيا عبر جنود مرتزقة يتم شراؤهم واستئجارهم. إلا أنهم قريبًا سيضطرون للانشغال بأنفسهم والعودة إلى تلك الصراعات السالفة على الجمال وأساسيات الحياة.

على الرغم من أن الالتزام بمبادئ الشهر الحرام من مسلّمات الإنسان البدوي، إلا أننا نريد أن نسدي لهم نصيحة اليوم بالتزام مبادئ شهر رمضان على الأقل، الذي يقدسه جميع المسلمين.

توقفوا عن ضرب المسلمين ببعضهم، وسفك دمائهم. وإلا فإنكم ستغرقون في الدماء التي أرقتموها.

.

 بواسطة / زكريا كارسون