على الرغم من أن شهر رمضان جاء والغالبية العظمى من الناس قد أغلقوا منازلهم على أنفسهم بسبب فيروس كورونا، إلا أنه علينا أن لا ننسى أن هذا الشهر هو قبل كل شيء شهر القرآن. وبالطبع لا شك أن العلاقة بين المؤمن والقرآن لا تقتصر على أيام رمضان فحسب. حيث أن القرآن بالنسبة للمؤمنين هو المرشد الذي يضيء حياتهم في كل لحظة وعلى مدار 12 شهرًا من السنة وفي كل يوم أيضًا. وعلى الرغم من أنه نزل على الناس جميعهم، إلا أن هدايته لا تصيب إلا من فتح له قلبه وعينه وأذنه.
يعتبر القرآن بالنسبة لمن لا يؤمن به مجرد نص مقروء، وحين قراءته ربما يتأثرون وربما لا، أو ربما يمنحهم معرفة وإلهامًا وربما لا كذلك. إلا أن القرآن بالنسبة للمسلم هو بمثابة صلة وصل دائمة بينه وبين الخالق، هو رسالة من الخالق يخاطب فيه عبده، وقراءة العبد للقرآن جوابٌ منه لذلك الخطاب. بمعنى آخر هو وسيلة اتصال معقدة؛ يتحدث فيها الخالق والمخاطَب في حوار مفتوح.
لا يقرأ المسلمون القرآن بشكل عام مثل قراءتهم أيّ كتاب آخر. هناك حالة استعداد تسبق تلك القراءة؛ مع الوضوء، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، الخشوع والأدب. لا يمكن مقارنة العلاقة بين القارئ والنص القرآني، مع أي علاقة أخرى بينه وبين أي نص آخر. هذا النوع من القراءة، يحدّد أساليب وطرق فهم القرآن، كما يحدد إلى حد كبير آثار القرآن على الإنسان.
لا يُقرأ القرآن كمجرد متن يتم إدراكه مع العقل، أو يتم تحيليه عبر أبعاد دلالية، بل يُطلق له العنان كي يأخذ القارئ نحو طريقه بطريقة خاصة. ويكتمل حضور القرآن عبر قراءته من قبل القارئ، وبذلك يكون تأثيره حاضرًا كذلك. وإلا فما تمت تسمية هذا الكتاب بالقرآن لأنه نزل فحسب، بل لأنه يكتمل بالقراءة ولكن حينما يجد قلبًا وعقلًا يمكن أن يخاطبهما.
لا يأخذ المنظرون الكلاسيكيون بعين الاعتبار، الرابط بين فهم النص المقروء، وبين خصائص ومناهج ومستوى عقول وشخصيات قرّاء ذلك النص. هناك معنى ثابت ومرموز له وهو متأصل في هذا النص لأجل قراءته وفهمه. ومن أجل فهم هذا النص يجب فك الرمز المتأصل فيه قبل أي شيء. ومن الممكن لأي شخص يمتلك ملامح منهجية معينة أن يقوم بذلك.
إن طريقة المقاربة النصية-القرآنية، تعتمد على مستوى الشخص ونيته وجديته واستعداده إزاء فهم النص، وهو إما أن يقوم بإحياء هذا النص، أو أن يدع هذا النص أي القرآن مهجورًا؛ ويعني ذلك عدم فهمه له، عدم قراءته على أصوله، عدم أدائه كقرآن، وعدم تقديره على الوجه الصحيح.
في ضوء التفسير الكلاسيكي، يتشكل تصور ذهني يقوم بتحليل القرآن بناء على ما يحتويه من محكم ومتشابه وعصيّ فهم وناصح ومنصوح ومجاز وبلاغة وما شابه ذلك. هذا التصور الذهني في الواقع يجعلنا أمام شيء أو آلة يتم تحليلها واستهلاكها، أكثر من كونه كتابًا يُستمع إليه وقرآنًا يُقرأ. في السياق ذاته تبدو آيات القرآن حينما تتم دراستها بطريقة أكاديمية باردة للغاية، وكأنها لا تقول شيئًا لذلك الباحث أو الأكاديمي الذي يدرسها، بل تبدو مجرد معنى يتم تحيليه ودراسة سياقه التاريخي ومناسبته، كآلة مستهلَكة. دعونا نكن واضحين ولنقل أن هذا النوع من الدراسات أجاده أيضًا بعض المستشرقين بطريقة كشفت عن الميزات النصية للقرآن. لكن يجب القول أن هذا النوع من الدراسات لا يحقق العلاقة المفترضة بين المؤمن والنص القرآني.
وعلى صعيد آخر فإن هذه الطريقة تعطي انطباعًا بأن قراءة القرآن هي محل خبرة وتخصص، وبالتالي تكون قد افترضت وجود مسافة بين النص ومخاطَبه الأصلي لا تتم إلا من خلال التلقين. وكما هو معلوم لا يكون هذا التلقين سلسًا وعذبًا على الدوام، بل يكون أحيانًا بطريقة قاسية وضاغطة تقرّر أن هذا النص لا يمكن لأي أحد أن يفهمه. إلا أن القرآن في الحقيقة يمتلك خطابًا لا يشمل المسلمين كلهم فحسب، بل البشرية بأكملها، ويحقق مراده وأداءه دون الحاجة لقراءة ودراسات الخبراء.
نعم طبعًا لا يمكن لأحد الادعاء بأن القرآن من حيث كونه مصدر تشريع وفقه وحقوق لا يحتاج من أجل فهمه إلى خبراء ومتخصصين. إلا أنه ومع ذلك فإن اقتضاء الخبرة والتخصص والعلوم وأساليب الاجتهاد، لا تستنفد جميع أشكال فهم القرآن. بل إن منافذ فهم القرآن وتحقيقه تتوقف لدى هؤلاء الخبراء وعامة المسلمين كذلك على البعد الذي يحقق فهم القرآن؛ أي الأدب والاستعدادية لقراءه، لا مجرد استهلاكه كنص عادي.
لا شك أن الجميع يقرأ وبإمكانه قراءة القرآن، أو التحدث أو الكتابة عنه، إلا أن فهمه ووضعه على النهج الصحيح لا يتحقق إلا من خلال الإيمان به ككتاب نزل من عند الله.
إن القرآن في الأصل يقر ذلك ويستهل به آياته بعد سورة الفاتحة، “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون”.
الأشخاص الذين لا يؤمنون بهذا التوصيف لا شك أن لديهم مساحة تأويلية يمكن أن يفهموا شيئًا من القرآن على ضوئها، لكن من الواجب النظر فيما فهموه والتحقيق فيه.
.