أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاثنين الماضي عن تخفيف الإجراءات والقيود التي فرضتها الحكومة في إطار مواجهة جائحة كورونا. تحدث بثقة، ولكن بحذر عن قرب الانتصار على الجائحة، فيما تبدو الأرقام والشواهد واضحة على الأرض، حيث تراجع عدد الإصابات قياسا لعدد الفحوصات والاختبارات اليومية، بحيث نزلت عن عتبة العشرة في المئة، وباتت تراوح حتى حول ستة إلى سبعة في المئة مع تراجع عدد الوفيات لأقل من مئة يوميا. كما تراجع عدد المصابين تحت أجهزة التنفس الصناعي، وزادت حالات الشفاء اليومية لتقارب ضعف وحتى ضعفي حالات الإصابة.
في السياق الصحي تم إجراء عدد كبير جدا من الفحوصات (وصل أحيانا إلى خمسين ألفا يوميا وتتراوح بالمتوسط حول 35 ألفا يوميا) وهو رقم يؤكد الجهوزية والإمكانيات العالية للقطاع الصحي، وساعد طبعا على أخذ فكرة عن مناطق انتشار الجائحة، وبالتالي اتخاذ الإجراءات الضرورية لتحجميها، حيث تم إغلاق بعص الأحياء والمناطق بشكل مبكر.
وزير الصحة المجتهد والمثابر فخر الدين خوجة قاد المواجهة بشكل ممتاز، فكان الجندي الأول في مواجهتها. وقد أشار دوما إلى أن العدد الكبير للفحوصات لم يكن صدفة أو عشوائيا، وإنما شمل كل مخالطي المصابين ومن تُحتمل إصابته بالفيروس.
إذن أثبت القطاع الصحي صلابته وجهوزيته، ولم تكن هناك مشكلات في اختبارات الإصابة، أو في غرف العناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي، ولم تكن هناك مشكلة أيضا في استقبال المستشفيات لكل من ظهرت عليهم أعراض الجائحة أو حتى أعراض شبيهة بها. وزير الصحة نفسه قال ذات مرة واثقا: إننا لسنا إسبانيا ولا أمريكا، في سياق تشجيعه المواطنين على التوجه إلى المستشفيات عند الإصابة أو مجرد الشك بالإصابة..
صحيا، أيضا جرى افتتاح مدينة طبية متكاملة في إسطنبول، ضمن خطة عامة تم قطع شوط طويل فيها، تشمل إقامة مدن طبية (ليس مستشفيات كبيرة فقط) في الولايات التركية كافة. فالنجاح الصحي لم يكن موضعيا أو تقنيا فقط مع تقدير كبير طبعا لمجهودات الوزير الجبارة، إنما نتيجة رؤية سياسية تنموية في إدارة البلد. هنا نعود إلى الرئيس أردوغان الذي كان بمثابة الجنرال المسؤول عن إدارة المعركة بشكل عام، على اعتبار أن وزير الصحة هو الجندي الأول برفقة ملايين الجنود الآخرين، مع الانتباه إلى أن إدارة المعركة ضد الجائحة كانت مدنية بالكامل، كما يفترض في دولة مدنية ديمقراطية؛ كان حضور للجيش طبعا لكن ليس كبيرا، ولم يتصدر المشهد كما حصل في الأنظمة الاستبدادية.
مع تكوين القطاع الصحي فكرة عن خريطة انتشار المرض، تم اتخاذ قرار سياسي بمنع التنقل بين الولايات، خاصة تلك التي ظهر فيها عدد كبير من الإصابات، ثم تم فرض حظر تجول شامل بعطلة نهاية الأسبوع في 31 ولاية (ثلثي عدد السكان تقريبا) طوال شهر الذروة (نيسان/ إبريل)، فكان حظر لأربعة أيام ثم لثلاثة أيام استغلالا للعطل الرسمية (عيد الطفولة وعيد العمال) في ظل التزام كامل تقريبا من قبل المواطنين. وجاء حظر نهاية الأسبوع منعا للاختلاط مع تحسن الجو، وكي لا تتأثر الحياة الاقتصادية، وهي من العوامل المهمة التي عملت عليها الحكومة للتوازن مع الاهتمام بصحة وحياة الناس.
فيما يتعلق بالاقتصاد، حرصت الحكومة على إبقاء العجلة الاقتصادية دائرة بشكل معقول، فلم يتم تعطيل العمل بالقطاعات والمؤسسات الحيوية تحديدا المالية (قطاع البنوك)، كما استمر العمل بالمشاريع الكبرى والاستراتيجية، ولكن ضمن الإجراءات الصحية المعتمدة. وللعلم، فقد زادت صادرات الخضار والفاكهة في الربع الأول من العام الجاري لتحقق عائد اقترب من 700 مليون دولار، كتعبير عن السياسة الاقتصادية الناجحة، إضافة طبعا إلى استمرار العمل في قطاع الصناعات الطبية، علما أن تركيا تحتل المركز الثاني عالميا بعد الصين في إنتاج المعدات والمستلزمات الطبية.
ضمن نفس السياسة، جرى رفض دعوات المعارضة المسيّسة من أجل فرض حظر التجول الشامل، أقله في إسطنبول قلب البلد النابض، ما كان سيشل الحياة بالكامل ويزيد الأعباء على الحكومة، ويثقل خطوات الخروج وحتى التعافي والانتعاش من الجائحة بعد الانتصار عليها.
ضمن نفس السياسة المتبصرة أيضا جرى تقديم حوافز اقتصادية (العلاج بالمجان أصلا) ،وتخصيص ميزانية من 100 مليار ليرة لتعويض المتضررين ولضمان تسهيل الانتعاش الاقتصادي مرة أخرى.
إلى ذلك، تم وضع خطط جاهزة لكل القطاعات الاقتصادية، تحديدا الصناعية والسياحية، للانتعاش الفوري مع بداية تخفيف إجراءات الحجر والخروج أو بالأحرى العودة الحذرة إلى الحياة الطبيعية مرة أخرى.
سياسيا ومؤسساتيا، أيضا لم يتأثر الجانب الديمقراطي، فاستمر عمل المؤسسات التنفيذية والتشريعية، وكان حضور كبير للإعلام (السلطة الرابعة) لجهة مراقبة، وحتى انتقاد سياسة الحكومة، فلم يتم تكميم الأفواه أو استغلال الجائحة للتضييق على حقوق الإنسان، والنقاش حول الإفراج المبكر عن عشرات آلاف المعتقلين كان ديمقراطيا وتم حسمه بالتصويت في البرلمان، ولم يتم استثناء المتهمين في جرائم تتعلق بالإرهاب فقط، وإنما القتل والجرائم الجنسية أيضا.
سياسيا، لم تتورع تركيا عن تقديم المساعدة والإغاثة لدول العالم، قدمتها فعلا لخمسة وخمسين دولة، منها دول كبرى حتى عظمى دون أن يكون ذلك للتفاخر المتغطرس، (كما فعل النظامان الصيني والمصري) أو على حساب الاحتياجات الداخلية. طبعا نصيب الأسد كان لدول الجوار في المحيط الجيبوليتيكي العربي الإسلامي، كما تم تلقي طلبات من 128 دولة لشراء مستلزمات طبية، علما أن السلطات فرضت حظرا على تصدير تلك المستلزمات قبل أن ترفعه السبت الماضي، بالتزامن مع تخفيف الإجراءات المفروضة في مواجهة الجائحة.
عموما، تبدو تركيا في طريقها للانتصار على الجائحة، ولا شك في أن النموذج التركي سيثير الاهتمام عالميا بعدما أدى داخليا إلى ارتفاع جدّي في شعبية الرئيس أردوغان والحزب الحاكم. ولا أشك لحظة في أنه سيتم إجراء دراسة معمقة واستخلاص للعبر من أجل العمل على سد الثغرات ومعالجة السلبيات تماما، كما قال زعيم حزب السعادة المعارض ملخصا ليس فقط أداء الحكومة فيما يتعلق بممواجهة الجائحة، إنما مسيرة حزب العدالة والتنمية بشكل عام. فتمل كاراملا أوغلو، المعارض العنيد والمثابر، قال لقناة محلية الثلاثاء وبالحرف الواحد: “حكومة العدالة والتنمية هي الأكثر نجاحا، فقد قامت بتعقب رغبات المواطن التركي ومتطلباته وتلبيتها، عبر تفعيل وابتكار سياسات جديدة لذلك.. السيد طيب (رجب طيب أردوغان) قام بفعل هذا بشكل ناجح جدا ومذهل، ومع كل قرار يتم اتخاذه كان يتم قياس نبض المواطن التركي أو الشارع التركي وبشكل يومي، وبموجب ذلك يتم القيام بتجهيز الأفكار وتطوير السياسات الجديدة”. وقال: “لم يقم أحد في تركيا حتى الآن، وعلى الإطلاق، بفعل هذا من قبل”.