تركيا أفشلت حسابات الانقلابيين في ليبيا
في الأيام التي كان فيها العالَمُ بأسره مشغولًا بإحدى المشكلات الكبرى التي شهدها العالم عبر التاريخ (جائحة كورونا)؛ حاول الانقلابيُّ في ليبيا خليفة حفتر والقوى التي تقف وراءه انتهازَ فرصة هذا الانشغال للانقضاض على العاصمة طرابلس والاستيلاء عليها.
فهذه القوى مثل اللص الانتهازي، وقد ظنّت أن ليبيا في هذه اللحظة غيرُ قادرة على الدفاع عن نفسها، وغير مراقَبة، ولا أحدَ سيقف معها. ولا سيما أنّ تركيا -التي وقّعت اتفاقية دفاعية مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليّا- مشغولة اليوم بنفسها بسبب جائحة كورونا، وليس عندها وقت للاهتمام بليبيا في هذه الظروف. هكذا كانوا يظنّون؛ ولكن حساباتهم هذه كلّفتهم الكثير من الأموال.
فهم رأَوا أنّ دولَ العالم كلَّها تغبط تركيا على قدراتها وإمكاناتها في مكافحة هذا الوباء بطريقة تمتاز بالكفاءة والتنسيق والعقلانية؛ فهي لا يمكنها أن تحلَّ مشكلتَها بنجاح فحسب، بل ويمكنها أيضا إرسالُ المساعدات إلى العالم بأسره.
ولو أنّ الشعب الليبي لم يعقد من تلقاء نفسه اتفاقية دفاعية مع تركيا لما كانت تركيا استطاعت إحباط مخططات الانقلابيين اللصوص، وتركيا لا تفرّط في هذه الثقة التي منحتها إياها الحكومة الليبية المعترف بها دوليا.
والواقع أنه مع الدعم الفني والعسكري الذي قدّمته تركيا لحليفتها الحكومة الليبية؛ فإن قوات الحكومة الليبية لم تقم بصدِّ هجوم حفتر فحسب، ولكنها -في مدة زمنية قصيرة- استطاعت أن تُرغِمَه على التراجع إلى الحدود التي عبَرَها منذ عامين تقريبًا.
ومن المؤسف -منذ البداية- أنّ الأمم المتحدة ومعها المجتمع الدولي قد قَبِلت حفتر طرفًا على طاولة المحادثات السياسية رغم أنه لم يكن له أيُّ حق في ذلك، ولكنّه أعطِي هذا بسبب السلطة التي كان يمتلكها بمعونة الدول التي تمدّه بالسلاح والمال والمرتزقة.
حتى هذا (اعتباره طرفا على الطاولة) كان منصِبًا غير مُستَحقٍّ له، لكنه -مع ذلك- لم يكن راضيا بذلك فقط؛ لأنّ القوى التي كانت تُموِّله وتديره كانت تريد السيطرة على ليبيا كاملة، وهم يعلمون أنّ نجاحهم في تحقيق هذا الهدف هو مسألة وقت فقط، لأنّهم رأوا أنه لا توجد في الميدان قوّةٌ تُوقفهم.
في الواقع إنّها جريمة حرب وفقا لمعايير الأمم المتحدة؛ إنّ محاولة سلب شعبٍ ما إرادتَه وأرضه وسلطته بقوّة السلاح -عبر استغلال ضعف قوته وعدم كفاية أسلحته- ليست سوى أفعال قُطّاع طُرق.
ولا يخفى أنّ حفتر -في مؤتمر برلين الذي عُقد في يناير/كانون الثاني الماضي- قاومَ قبولَ اتفاق وقف إطلاق النار الذي وجّهته إليه كافة الدول المشاركة في المؤتمر؛ لأنه كان يقف على أبواب طرابلس، ويعتقد أنه لا يوجد أحدٌ يمنعه من القيام بخطوته النّهائية.
ولكنّه أذعن لقبول الاتفاق رسميًّا نتيجةً لحركة الجهود الدبلوماسية بين تركيا وروسيا، بيد أنّه على الأرض استمرّ في فِعل ما يتقنه من الأعمال الهجومية والعدوانية مرة أخرى، وهاجَم طرابلس وضرب فيها أهدافًا مدنيّة لإجبارها على الاستسلام.
ولكن مع المقاومة التي واجهها والهجوم المضاد الذي تعرّض له بعد هجومه الأخير؛ أصبح حفتر الآن هو الطرف الهارب والمطالِب بوقف إطلاق النار أو حتى السلام. والواقع أن الأحداث الأخيرة تسبّبت في ذُعر كلٍّ من حفتر وداعميه، ولا سيما الإمارات ومصر.
والغريب أنّه حتى في اليوم الأول من شهر رمضان المبارك أعلن حفتر -الذي يقصف أهدافا مدنيّة ويقتل المدنيين- أنّ الشعب الليبي أَذِنَ له بأن يكون حاكما لكلّ ليبيا. وكانت هذه الخطوة وإلغاء اتفاقية “الصخيرات” بمثابة انقلاب وإلغاء لمجلس نوّاب طُبرق، الذي طالما استند إليه حفتر واستمد منه شرعيته المزعومة؛ فكان كمَن يقطع بيده الغصنَ الذي يقف عليه. ولا عجبَ؛ فهذه عاقبةُ الطمع.
يعتقد حفتر أنّه يجب ألا يكون حاكمَ طبرق فحسب، بل حاكمَ ليبيا بأكملها. ومع هذا؛ فإنّ عقيلة صالح رئيس مجلس نواب طبرق -فضلا عن شعب ليبيا بأكمله- أعلن أنّه لم يمنح مثل هذه السلطة لحفتر.
كما أعلنت روسيا -وهي من كبار مؤيدي حفتر حتى الآن- أنها لا تعترف بهذا القرار السخيف. وأمّا الإمارات فقد هرولَت لمساعدة حفتر الذي تُرك فجأة بمفرده. ومع ذلك؛ فإن طريقتها في الهرولة لا تعني أيَّ شيء آخر غير مشاركتها حفتر في ذُعره.
لقد أدلى مسؤول إماراتي ببيان غير مسؤول تجاوزَ فيه حدودَه؛ إذ وصَف الوجودَ التركي في ليبيا بأنّه “احتلال”. والتعبير التركي القائل: “عندما كان يستعرضُ شجاعتَه حكى عن سرقاته” ينطبق على هذا البيان القميء، الذي فضح -في لحظة واحدة- وعرّى حقيقةَ وجود الإمارات في ليبيا.
والسؤالُ البسيط -الذي سيتبادر إلى ذهن كلِّ من يسمع هذا البيان- هو: ماذا تفعل دولة الإمارات في ليبيا؟ ومن وجّه لها دعوةً للقدوم إلى ليبيا؟ ولكن لا توجد من الإمارات العربية المتحدة أي إجابات مقنعة لهذه الأسئلة البسيطة.
فعندما كان الليبيون يتفقون ويتفاوضون على الأمور الإيجابية والسلبية فيما بينهم، وبينما شكّلوا مجلسَ حوار بنّاء، وكانوا يتناقشون حول بناء مستقبل مزدهر لليبيا؛ مَن منح الحقّ لدولة الإمارات في أن تنغمس في أرضية هذا الحوار، وأن تفرض عليهم جنرالا استوردته من الخارج ليقوم بانقلاب غير أخلاقيّ؟! وبأيّ حقّ تفعل ذلك؟!
وقد ردّ المتحدث باسم الخارجية التركية حامي آقصوي وأجاب عن هذا الاتهام بالحقيقة التي أصبحت واضحة للجميع بقوله: “إنها محاولة من الإمارات لإخفاء السياسة المنافِقة لدولةٍ تقدِّمُ كلَّ أنواع الدعم للانقلابيين. الإماراتُ تهدّد السلامَ والثقة والاستقرار الدولي ليس فقط في ليبيا، ولكن أيضًا في المنطقة بأسرها، بما في ذلك اليمن وسوريا والقرن الأفريقي. وهي تدعم منظمات إرهابية مثل حركة الشباب في الصومال، وتغذّي الصراعات الانفصالية في اليمن. على الإمارات أن تعرف حدودها”.
في الواقع، ومن خلال اعتراضها على تركيا بهذه الطريقة؛ فإنّ الإمارات تحمّلت -في لحظة واحدة- المسؤوليةَ عن الجرائم التي ارتكبها الانقلابيون الدمويون، الذين استخدمَتْهم وساندتهم في ليبيا لمدة ست سنوات كاملة.
نعم؛ إن الحال في ليبيا هو بالضبط كالحاصل في اليمن، والإماراتُ شريكٌ ومُحرِّضٌ على جميع الجرائم التي ارتكبها حفتر، والآن سيُطلب الحسابُ مباشرة منه ومن شركائه الآخرين. ولأنّهم يوقنون بذلك؛ فإنّ الإمارات ينتابها الذُّعر تمامًا كما انتاب حفتر.
ولذلك فإنها أرسلت -بشكل طارئ- إلى السودان وفدًا يرأسه مستشارُ الأمن الوطني لدولة الإمارات طحنون بن زايد، محاوِلًا تأسيسَ قوات “جنجاويد” جديدة لإنقاذ حفتر. وثمة روايات متباينة حول مدى التجاوب الذي وجدوه في السودان، ولكن يبدو أن الوضع في السودان ليس بالطريقة التي يريدونها، كما هو الحال في أماكن أخرى كثيرة.
وبناء على هذا؛ فقد أصدر حفتر -قبل بضعة أيّام- تصريحا معاكسا تماما هذه المرة لتصريحاته القريبة السابقة، مشيراً فيه إلى أنه أوقف هذه المرّةَ جميعَ أنشطته العسكرية خلال شهر رمضان، وجاء فيه أنّه ملتزم باتفاق برلين.
من الواضح أن هذا القرار جاء بسبب الخسائر الفادحة والهزائم المتتابعة التي تلقّاها حفتر في الميدان، ومن الواضح أيضا أن هذا القرار تكتيكي بهدف أخذ النَّفَس من شدة الضربات التي تلقاها، ولأجل كسب الوقت وتحشيد قواته ومرتزقته من جديد. وباختصار؛ فإن هذا القرار احتضارٌ عسكري ولم يأتِ احتراما لشهر رمضان المبارك.
لا توجد أيّ ثقة أو مصداقية لإعلان حفتر وقف إطلاق النار؛ فقد ناداه العالَم متّحدًا وطالبَه مرارًا بوقف إطلاق النار ولكنّه لم يفعل، والآن -عندما رأى نفسَه مخنوقا محصورا في الزاوية- بدأ يعلن ويدعو إلى وقف إطلاق النار!
إن اتفاق برلين في الواقع منحَ حفتر هامشَ امتياز لم يكن يستحقُّه قَطُّ، وإذا ما قُدِّر له استخدامه فإنّه أيضا لن يستحقه أبدًا. ورغم ذلك؛ فقد صرّحت تركيا بأنها ستلتزم مخلِصةً بهذا الاتفاق. ومع ذلك؛ ربّما تتجلّى هنا مقولة: “في كلّ شرّ خيرٌ”.
ولعله -بهذه المناسبة- يتم تحرير الشعب الليبي من الانقلابيين المتآمرين مع اللصوص الذين يحاولون غزو بلادهم وسرقة مواردها، ولا يعدونهم بأي مستقبل أو أيّ خير. أما بالنسبة لتركيا؛ فإنّها ستقف دائما في صالح الشعب الليبي، ولن تكون طرفًا في أيّ اتفاق ضد مصالحه.
إن الوجود التركي في ليبيا الآن تم بدعوة من الشعب الليبي، وهدفه الأساسي هو ترْكُ ليبيا للشعب الليبي وحده، وترسيخ وحدة البلاد واستقلالها؛ وإذا كان بإمكان الآخرين التعبير عن هذا الهدف بوضوح فإنهم سيكونون موضعَ ترحيب.
من قال لكم أن الشعب الليبي يريد تدخل تركي عودو أنتم و مرتزقتكم من حيث أتيتم