هل توحيد طرقنا وتجاربنا ودرجاتنا واختلافاتنا المتنوعة، هو جزء من أهداف القرآن الذي طالما يركز على التوحيد؟ كيف يلمّ القرآن شمل الإنسانية، التي هي في الواقع تختلف في جوهرها عن التوحيد الذي يدعو له القرآن مع تركيزه القوي على التعقل والتفكر والتأمل؟.
لكن وعلى صعيد آخر، يؤكد القرآن على الاختلاف القائم بين الناس، وأن هذا الاختلاف نابع عن اختيارهم وإرادتهم، وأنه في النهاية امتحان وآية للناس. إلا أنه في الوقت ذاته يعارض بشدة تفضيل الناس على بعضهم على أساس مجتمعاتهم أو فِرَقهم أو قبائلهم أو لغاتهم أو مفاهيمهم أو ميزاتهم أو أشكالهم.
العلوم أو الميزات المختلفة أو الممتلكات وغيرها مما مُنح للإنسان، ما هي إلا زينة ومحل استعراض في هذه الدنيا التي ليست إلا مجرد متاع ولهو. إن دوافع الوثنية إن صح التعبير تتشكل قبل أي شيء من تمسك الإنسان بما مُنحه كنوع من الامتحان؛ كاللغة والعرق واللون والغنى أو الفقر، أو ما لم يُمنحه أصلًا؛ فيقف عنده ويشغل به نفسه ويحاول جاهدًا معاملة تلك الأشياء على أنها أبدية لا تزول.
بيد أن الخطاب القرآني يبدو دعوة لا تعبأ لجميع تلك الفروقات، إلا إنه يعطيها حقها من حيث تحديد ماهيتها وتأسيس فقهها وقوانينها عند الضرورة، وتربطها جميعًا مع مبدأ الوحدة. بينما يميل بعض المؤرخين إلى دفن القرآن في التاريخ بناء على الفروقات التي عثروا عليها عبر مقارنة اليوم مع الماضي، فإنهم يتجاهلون أن الفروقات التي يتحدثون عنها كانت قائمة بين الناس في الزمن الذي نزل فيه القرآن، ولقد تناول القرآن تلك الاختلافات مرارًا.
لا بد أن يختلف الناس في التعليق على الخطاب القرآني بناء على اختلافهم في قراءة مفاهيمه، حيث أن هذه القراءة أصلًا تابعة للاختلاف القائم فيما بينهم. إلا أن القرآن في النهاية هو مصدر العلم المطلق لأنه مصدر إلهي، بيد أن التاريخ وما فيه هو فان ومحدود.
إن محاولة إضفاء الطابع التاريخي على الخطاب الإلهي الذي يخاطب الإنسان، يعتبر قبل كل شيء تجاوز الإنسان حدّه إلى مساحة لا يمكنه من حيث هو مخلوق فانٍ؛ أن يفهم كنهها أو يدركها. ولو كانت لديه القوة لذلك فلن يقف في طريقه أحد، إلا أنه من الواضح أن إمكانياته العلمية كمخلوق لن تكفي لذلك. وحتى الاختلافات في قراءة القرآن ترجع في النهاية إلى هذه النقطة؛ أي تجاوز الحد البشري وإضفاء الطابع التاريخي على الخطاب الإلهي.
كما يقول سلمان سيد، “لا يمكن سد الفجوة بين قراءة القرآن وفهمه. لا يمكننا على الإطلاق أن نوازي بين مقدرتنا العقلية مع المقدرة التي يتصف بها صاحب القرآن”.
الرغبة في التوصل إلى عقلية الإله في التفسيرات القرآنية تجعل من الجهود التاريخية شيئًا أقرب إلى نوع من أنواع التحليل النفسي للإله. ومن وقت لآخر يمكن أن تجري تلك الجهود وفق حد معين على نسق الدراسات الموضوع باسم “علم المقصد”، ويعني الغرض الرئيسي وراء الأحكام القرآنية، والمصلحة المستهدفة. ولذلك يركز علم المقصد على ترسيخ التواضع في حدود العلاقة ما بين الله والعبد، وخلافًا لذلك؛ فسيكون حتمًا عرضة لأداة إيديولوجية للرغبات السياسية تحت ذريعة تحديث القرآن والإسلام لملائمة العصر.
إن إمكانية خضوع القرآن لتفسيرات وقراءات مختلفة، ليس حجة لإخضاعه للتاريخ وحبسه داخل حقبة بعينها، بل إن ذلك دليل على ثراء وعمق المعنى الذي يتناسق مع الاختلافات التي خلقها. كذلك إمكانية كون القرآن مصدر تألق في تجارب وعواطف وهموم ودرجات كل فرد على حدة، لا يعني على الإطلاق أن القرآن مصدر كل معنى متناقض. حتى القرآن يذكر أن “الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات”. (آل عمران-آية7).
وفي المقابل لا توجد إشارة محددة نحو الآيات المحكمة والأُخرى المتشابهة. حينما يشير القرآن إلى شيء دون تقديم تفاصيل أكثر، يُلجأ إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخصوص، لكن في هذه النقطة فحتى السنّة لم تذكر تفاصيل حول الآي المتشابه والمحكم. ولا يوجد كذلك إجماع فيما بين العلماء على تحديد المتشابه من الآيات. بعبارة أخرى، لقد بات المتشابه نفسه محل نقاش وخلاف. يشير توماس باور في كتابه “ثقافة الالتباس.. نحو تاريخ جديد للإسلام”؛ أنّ المتشابه بحد ذاته مظهر من مظاهر الغموض الإبداعي.
علم ذلك عند الله بلا شك، وماهية المتشابه هي كما تحدث عنها القرآن بالضبط، لكنني أعتقد كراي شخصي، أن المتشابه انعكاس عن الفروقات القائمة بين الناس إلى حد بعيد، وانه يقود نحو مساحة فهم واسعة. بمعنى آخر كما يقول العلامة الطباطبائي “وكم من متشابه عند البعض محكم عند آخرين”.
على الرغم من جميع الفوضى التي تعتري فروقات الناس واختلافاتهم المؤثرة على تفاوت درجاتهم، من اختلاف تاريخ ومشرب ومذهب وغير ذلك؛ يمكن للقرآن أن يكون نصًّا يوحد بطريقة فريدة ما بين جميع المسلمين. ونستحضر لذلك ما قاله سلمان سيد؛ “القرآن إبرة، وقراءتنا له الخيط الذي يربط ما بين الأمة جمعاء”.
.