ليس هناك أي مبالغة في تصنيف تركيا بأنها حاليًا قوة كبرى في عالم الطائرات بدون طيار “الدرونز”، وأن بعض الخبراء يعدونها القوة الثالثة بعد الولايات المتحدة وإسرائيل على مستوى حِرَفية تشغيل الدرونز في العمليات العسكرية بتزامنات دقيقة سواءً كانت مسلحة أو للمراقبة والرصد والاستخبارات، ولا يوجد دليل أكبر مما فعلته طائرات أنقرة في سماء إدلب وفي الشمال السوري عمومًا، بالإضافة للمَشَاهد التي راجت مؤخرا في سماء ليبيا بتدميرها منظومة “بانتسير إس 1” الروسية.
تلك الطائرات المسيّرة، برزَ تأثيرها أواخر فبراير من العام الحالي 2020 حينما قام الجيش التركي باستهداف اجتماع لقيادات كبار في النظام السوري وأخرى من حزب الله ليقتل 10 من حاضري الاجتماع ويصيب عشرين آخرين، وأتى الرصد والاستهداف عن طريق سلاح الجو الأثير حاليًا للأتراك “الدرونز”، بينما قامت تلك الدرونز أيضًا بقصف عشرات المواقع لميليشيات نظام الأسد في ريفي حلب وإدلب، مع قصف مدفعي تركي متزامن معها.
في الفترة الماضية واجهت أنقرة معضلة انسداد المجال الجوي، وهي معضلة تأتي من تزويد روسيا لحليفها “نظام الأسد” بأنظمة دفاع جوي شاملة، سواء نظام إس 300 الخاص بتعقب وتدمير الأهداف البعيدة والمرتفعة “الطائرات النفاثة وبعض الصواريخ عالية الارتفاع”، أو نظامي “بانتسير إس 1″ و”باك إم 2” الخاصين بالأهداف المتوسطة وقريبة المدى، وكانت مشكلة الدرونز التركية تأتي تحديدًا من نظام “بانتر إس 1” الروسي المخصص لمواجهتها، لكن القصف التركي نجح في تدمير عدد من المواقع الهامة لتلك البطاريات، ومن ثم ساهم بشدة في فتح المجال الجوي أمام الدرونز لتحل محل المقاتلات النفاثة التي مازالت لا تستطيع الدخول في المعركة بدون تعريض حياة الطيارين الأتراك للخطر.
ويمكن القول إن الحال ذاته كان قائما في السماء الليبية التي تفوقت فيها قوات حفتر وحلفائه مؤقتا، قبل أن تقلب الدرونز التركية المعادلة عبر ما شاهده الكثيرون في الأيام القليلة الفائتة من تدمير لمنظومة “بانتسير إس 1” وما صاحبه من تقدم عسكرّي لقوات حكومة الوفاق في طرابلس بعد سيطرتها على قاعدة الوطية الجوية أحد المواقع الإستراتيجية في مشروع حفتر للانقلاب على الشرعية في ليبيا. فما قصة تطور الدرونز التركية وكيف أعادت للأتراك هيبتهم في سوق السلاح العالميّ؟
نص المادة
في 15 (أغسطس/آب) عام 2018، كان “إسماعيل أوزدن”، القيادي التركي البارز في حزب العمال الكردستاني والمسؤول عن عمليات الحزب في سنجار شمال العراق، يحضر مراسم تذكارية بالقرب من قرية كوتشو الواقعة على مسافة 15 كيلومترا جنوب سنجار، وبينما كان “أوزن” يغادر الحفل التذكاري نجحت المخابرات التركية في رصد موقعه من خلال مراقبة هواتف مساعديه التي تعمل عبر الأقمار الصناعية، وتمكّنت في النهاية من تحديد موقعه بدقة داخل شاحنة بيضاء ضمن قافلة لحزب العمال تسير فوق إحدى الطرق السريعة في المنطقة.
ومع كون أوزدن، أو “زكي شنكالي” كما يُحب أنصاره أن يلقبوه، أحد أبرز المطلوبين على القوائم الحمراء للسلطات التركية، لم يكن ما حدث بعد تحديد موقعه مفاجئا، حيث تولّت طائرة بدون طيار تركية الصنع من طراز “بيرقدار تي بي 2” مهمة مراقبة قافلة “أوزدن” وتتبُّعها قبل أن تُطلق قنبلة موجهة بالليزر على شاحنته الصغيرة، وظلّت الدرون التركية تراقب زملاء القيادي الكردستاني وهم ينقلونه إلى سيارة أخرى حمراء، وبينما كانت السيارة الثانية تشق طريقها نحو قاعدة مُحصَّنة لحزب العمال، أطلقت الطائرة ضربتها التالية وقتلت على الفور أوزدن وعشرة أشخاص آخرين برفقته.
على مدار الأيام التالية، احتل التسجيل المرئي غير العادي الذي أصدرته السلطات التركية نفسها للعملية عناوين الأخبار في البلاد مع إشادة واضحة شعبية بما حدث، وفخر من الأتراك لا يمكن تجاهله بالتقدُّم الذي أحرزته دولتهم في مجال الطائرات بدون طيار، وهو ما وفَّر فرصة لا تُقدَّر بثمن للشعب لممارسة طقوس الفخر الوطني الملحمية بنكهة لم تخلُ من حداثية، وأتى ذلك على إثر انتشار(1) عدد من ألعاب الحاسوب المرتبطة بالدرونز التركية لتُلاقي رواجا واسعا بين الشباب التركي، منها لعبة يقوم فيها المشارك بمحاكاة طلعات جوية بالطائرات بدون طيار على مدينة عفرين الكردية، بخلاف لعبة أخرى أطلقتها الشركة التركية لصناعات الفضاء باسم “العملية أنكا”، نسبة إلى الطائرة المُسيَّرة التي تُنتجها الشركة بالاسم ذاته، وخلالها يقوم اللاعب بممارسة سيناريوهات مختلفة لـ “الحرب على الإرهاب”، وتنظيم مهام الدرونز سواء لأغراض الاستطلاع أو تقديم الدعم للقوات البرية.
تتجاوز الدرونز الجديدة في تركيا إذن حد كونها مجرد سلاح عسكري أو حتى قضية سياسية، لتتحوَّل للمفارقة إلى شعلة مُلهِبة للحماس الشعبي الوطني، وهو توجُّه يبدو أن الحكومة التركية قرَّرت تبنّيه منذ منتصف العقد الماضي، وتحديدا منذ اللحظة التي قرَّر فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يجعل تطوير صناعة الدفاع الوطنية إحدى أولوياته الرئيسة ويسن إصلاحات دستورية لهذا الغرض تم إقرارها خلال الاستفتاء على الدستور التركي في شهر أبريل/نيسان عام 2016، وتم بموجبها منح سلطة الإشراف على صناعة الدفاع والمشتريات الدفاعية للرئاسة، ليكتمل بذلك الإطار القانوني لمشروع “أردوغان” لإنتاج الأسلحة محلية الصنع.
غير أن طموحات تركيا لإنتاج الأسلحة محليا تسبق هذه اللحظة بكثير، فمنذ سبعينيات القرن الماضي كان لدى المسؤولين الأتراك شكوك كبيرة حول الآثار السلبية للاعتماد على الأسلحة الأميركية والغربية، وهو شعور تعزَّز بشكل واضح خلال الأعوام الأخيرة بعد أن رفضت هذه الدول العديد من الطلبات التركية للحصول على أسلحة متطورة، كما حدث في عام 2014 حين رفض الكونغرس الأميركي نقل فرقاطتين من طراز “أوليفر هازارد بيري” إلى تركيا بسبب موقف أنقرة “العدائي” تجاه إسرائيل، والأهم من ذلك الحظر طويل الأمد الذي فرضته واشنطن على تصدير الطائرات بدون طيار للعديد من الدول وفي مُقدِّمتها تركيا أيضا.
فحتى عام 2015 كانت الدرونز الأميركية تمتلك هيمنة مطلقة على سماوات العالم، هيمنة بدأت منذ اللحظة التي أطلقت فيها واشنطن أول هجوم مُسجَّل بالدرونز المسلحة في أفغانستان عام 2001، لكن ذلك تغيَّر خلال الأعوام الخمس الأخيرة مع تحقيق العديد من القوى الأخرى اختراقات في مجال تصنيع الدرونز وفي مُقدِّمتها الصين، وتركيا التي تُعَدُّ اليوم إحدى أبرز القوى العالمية في هذا المجال.
هناك العديد من الأسباب التي ربما دفعت أنقرة لوضع تصنيع الدرونز في قلب خطتها الطموح لإنتاج الأسلحة محليا، فمن ناحية(2) تُعَدُّ الدرونز سلاحا فعالا على المستوى الإستراتيجي والتشغيلي، بخلاف كونها غير مُكلِّفة مقارنة مع الأسلحة التقليدية وفي مُقدِّمتها الطائرات النفاثة، ومن ناحية أخرى، ومع كون تصنيع الدرونز يُعَدُّ امتيازا حصريا لعدد قليل من الدول يمكن حصرها على أصابع اليد الواحدة، فإن النجاح في اختراق هذا المجال وفَّر لأنقرة السمعة العالمية التي تحتاج إليها كعضو جديد في نادي الدول المُصنِّعة والمُصدِّرة للأسلحة. وفي هذا السياق، ورغم أن صادرات تركيا من الأسلحة لم تتجاوز بعد 3% من حجم صادرات الأسلحة العالمية (وهم رقم تضاعف مرتين على الأقل مقارنة بعام 2016)، يبدو أن أنقرة مُصمِّمة على زيادة حصتها في هذا المجال مدفوعة بطموحات واسعة لتأسيس صناعة دفاع محلية راسخة، ويبدو أن الدرونز بمختلف أنواعها ستُواصل لعب دور رأس الحربة في هذه الجهود غير المسبوقة.
منذ عام 1975 كان لتركيا علاقة غير مريحة مع الولايات المتحدة إثر قيام الأخيرة بفرض عقوبات على تصدير الأسلحة إلى الأولى بعد غزوها لقبرص ردا على الانقلاب العسكري المدعوم من اليونان في الجزيرة، وكان لهذا التوتر مع واشنطن تأثير طويل الأمد على سلوك أنقرة التي أصبحت أقل ثقة في الدعم العسكري الأميركي، ونتيجة لذلك وعلى مدار العقد التالي قام الأتراك بتأسيس عدد من الشركات المحلية للصناعات الدفاعية ركَّز معظمها على إنتاج الذخائر والأسلحة الصغيرة، في حين عمل بعضها -مثل الشركة التركية لصناعات الفضاء (TAI)- على مشروعات أكبر مثل إنتاج الصواريخ المُوجَّهة والطائرات.
ورغم ذلك، وبفعل القيود المُشدَّدة التي فرضتها واشنطن على تصدير تكنولوجيا الطائرات بدون طيار على وجه الخصوص، فإن أنقرة دخلت(3) عصر الدرونز للمرة الأولى من الباب التقليدي نفسه حين قامت عام 1996 بشراء 6 طائرات بدون طيار من طراز (GNAT 750 s) التي تُنتجها شركة جنرال أتوميكس الأميركية، وهي درونز محدودة الإمكانات تُستخدم لأغراض الاستطلاع وجمع المعلومات وظَّفها الأتراك لجمع المعلومات عن مقاتلي حزب العمال في محافظات جنوب شرق تركيا، حيث استغل المتمردون الممرات الجبلية الوعرة للتهرُّب من قوات الأمن التركية، وقد كانت استفادة تركيا من المعلومات التي تُقدِّمها الطائرات الأميركية محدودة جدا بسبب الزمن الذي يستغرقه نقل البيانات من الطائرة لمراكز العمليات ثم تقييم هذه المعلومات ومدى جودتها قبل اتخاذ قرار بتوجيه ضربة جوية باستخدام الطائرات المقاتلة النفاثة.
لاحقا، عام 2006، طلبت تركيا الحصول على طائرات بدون طيار مسلحة من طراز “هيرون” من إسرائيل التي كانت تستخدم الطائرات العسكرية بدون طيار منذ السبعينيات، لكن الأمر استغرق خمس سنوات كي تقوم تل أبيب بتقديم الطائرات لأنقرة، قبل أن تتهم الأخيرة الإسرائيليين بتخريب محركات الطائرة وأنظمة التصوير عن بُعد وتُعيدها من أجل عملية إصلاح استغرقت هي الأخرى بضع سنوات، وحتى بعد استعادة الأتراك للطائرات -التي كان يتم تشغيلها بالاستعانة بفنيين إسرائيليين- ظلّ المسؤولون مُتشكِّكين في أن اللقطات التي يتم جمعها من هذه الطائرات تجد طريقها سرا لأيدي الاستخبارات الإسرائيلية، وهي شكوك تفاقمت بشكل خاص بعد القطيعة الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب في أعقاب أحداث السفينة “مرمرة” عام 2010 حين قامت إسرائيل بقتل تسعة مواطنين أتراك على متن السفينة التي كانت تحاول كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة.
ومع إدراك أنقرة لهذه الحقائق بدأت ببذل جهود مبكرة لتدشين برنامج محلي لصناعة الدرونز، وتُشير التقديرات إلى أن تركيا بدأت في العمل على تصميم هيكل الطائرات والبرمجيات وأنظمة الاتصالات منذ أوائل التسعينيات، لكن البداية الفعلية لهذا المسار حدثت عام 2004 حين طرح الجيش التركي مناقصة حكومية لتصميم وتطوير طائرة بدون طيار متوسطة الارتفاع عالية التحمُّل (MALE) فازت بها الشركة التركية لصناعات الفضاء (تاي) التي أطلقت في ذلك الحين طائرة بدون طيار باسم “أنكا“، درون يقال إنها كانت قادرة على الطيران على ارتفاع يصل إلى 30 ألف قدم لمدة تصل إلى 24 ساعة، لكن أول رحلة لـ “أنكا” عام 2010 لم تسر بشكل جيد، حيث تحطمت الطائرة بعد مرور عشر دقائق من إقلاعها، وبخلاف ذلك اعتمدت الطائرة على موجات الراديو في نظام الاتصال الخاص بها، ما قلّل من مدى الاتصال، وحدّ من معدل نقل البيانات، ومن ثم قلّص من فائدة الطائرة بشكل عام.
بالتزامن مع ذلك، واجهت(4) تركيا مشكلات لا تقل تعقيدا في استيراد المحركات والقطع التقنية اللازمة لصناعة طائراتها الخاصة على إثر توقف شركة “Thielert” الألمانية التي كانت تورد المحركات لأنقرة عن العمل، وإيقاف شركة المشتريات الصينية “AVIC International” هي الأخرى تصدير المحركات العسكرية، ما دفع الأتراك لإطلاق برنامج لتصنيع محرك محلي، لكن هذه المشكلات لم تُوقف جهود تطوير “أنكا” بشكل كامل، حيث نجحت الطائرة التركية في القيام بأول رحلة ناجحة لها قبل نهاية عام 2011، وبحلول عام 2013 كانت طائرات “أنكا” قد تم قبولها للعمل من قِبل القوات الجوية التركية.
ورغم ذلك كله فإن المشكلة الرئيسة بالنسبة لتركيا كانت في أن “أنكا” مثلها مثل “هيرون” لم تكن درونز مسلحة، ما يعني أن الحلقة الناقصة في سلسلة التشغيل بين جمع المعلومات وتنفيذ العمليات وقتها لا تزال مفقودة، وبدا ذلك الخلل واضحا عام 2011 على سبيل المثال حين قام مئات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني بشن هجمات متزامنة على قواعد تركية في مقاطعة هكاري في الجنوب الشرقي في هجوم وُصف أنه الأبرز للحزب منذ عقود، وفي حين أن طائرات “هيرون” كانت قادرة على نقل لقطات للهجمات من أعلى، فإنها لم تكن تملك أي أنظمة أسلحة مدمجة للتدخل في المشهد، ووجدت تركيا نفسها في النهاية مضطرة للرد بشكل تقليدي عبر إرسال آلاف الجنود لشن عمليات برية عبر الحدود في العراق.
في ذلك التوقيت كانت تركيا تحصل(5) أيضا على بعض اللقطات والإشارات الاستخباراتية من طائرات “بريداتور” الأميركية، لكن واشنطن أصرَّت على رفض بيع الدرونز المسلحة بسبب مخاوفها من موقف أنقرة “العدائي” تجاه إسرائيل كما تراه. لذا بحلول عام 2015، اتخذت تركيا قرارا نهائيا بوقف الاعتماد على الحليف الأميركي “غير الموثوق” وخوض سباق تسلح خاص بها ضد واشنطن ودول الناتو، وكان تطوير طائرة بدون طيار مسلحة هو الأولوية القصوى لتركيا في هذا السباق، وهو ما مهَّد الطريق لظهور الجيل الثاني من الدرونز التركية.
بدأت رحلة الجيل الثاني(6) من الدرونز التركية بالتوازي مع الجيل الأول تقريبا ولكن مع دعم حكومي أقل. ففي عام 2005، نجح شاب تركي يبلغ من العمر 26 عاما، درس الهندسة الكهربائية محليا، وحصل على درجة الماجستير من جامعة بنسلفانيا الأميركية، قبل أن يتقدَّم لدراسة الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نجح في إقناع مجموعة من المسؤولين الأتراك بحضور عرض صغير لطائرة بدون طيار محلية الصنع كان يعمل عليها بنفسه، ومن أجل إقناع المسؤولين بتبنّي مشروعه فقد أخبرهم الشاب “سلجوق بيرقدار” أن زملاءه في معهد ماساشوستس يعملون على نماذج مماثلة لمشاريع عسكرية أميركية.
وكما يُظهِر مقطع الفيديو الذي تم تداوله بكثافة في الأعوام الأخيرة، فقد شاهد المسؤولون الأتراك بأعينهم -لأول مرة ربما- طائرة بيرقدار الصغيرة وهي تُقلع من تلقاء نفسها وتُشهر أسلحتها الصورية قبل أن تنحدر بلطف في طريق الهبوط وتستقر مجددا في أيدي بيرقدار، ورغم ذلك يبدو أن المسؤولين الأتراك لم يقتنعوا كثيرا بالعرض الذي قدَّمه الشاب، الذي كان حتى ذلك التوقيت غير معروف لدى دوائر السلطة في أنقرة رغم كونه ينحدر من عائلة لها نشاط كبير في مجال صناعة السيارات في تركيا.
في وقت لاحق، قدَّم “سلجوق” بحثا علميا خاصا في معهد ماساتشوستس حوى خوارزمية لهبوط طائرة بدون طيار في تضاريس وعرة للغاية وحتى بشكل رأسي على الحائط، لكن الشاب التركي قرَّر بحلول عام 2007 قطع دراسته في المعهد الأميركي المرموق والعودة لتركيا للمشاركة في إدارة شركة العائلة “بيرقدار ماكينا”، وهي شركة متخصصة في مكونات السيارات تم إنشاؤها عام 1984 كجزء من جهود تركيا لتصنيع السيارات محليا، وبعد أن نجحت الشركة في الفوز بمناقصة طرحها الجيش التركي لتصنيع نموذج لطائرة صغيرة بدون طيار، أمرت أنقرة في النهاية بتصنيع 19 وحدة منها ونشرها في محافظات جنوب شرق البلاد.
بفضل عمله الجديد مع الجيش وجد بيرقدار الفرصة أخيرا لاختبار نظرياته ونماذجه الجديدة ميدانيا، ونجح في إقناع الجنرالات بالوجود معهم في الميدان من أجل تدوين ملحوظات مُفصَّلة حول نوعية التقنيات المطلوبة لطائراته، وبحلول عام 2015 نجح المهندس الشاب أخيرا في إجراء عرض ناجح للطائرات بدون طيار الأكثر تطوُّرا من طراز “بيرقدار تي بي 2″، التي جذبت انتباه الجيش التركي بشدة بعد أن نجحت خلال تجارب الأداء في إصابة هدف على بُعد 8 كيلومترات باستخدام صاروخ مُوجَّه تركي الصنع أثناء تحليقها على ارتفاع يبلغ 4 كيلومترات، وفي العام نفسه اكتسب بيرقدار خطوة شخصية كبيرة لدى الرئيس التركي بعدما تزوّج من ابنته الصغرى سمية أردوغان.
خلال فترة قصيرة، أصبحت طائرات بيرقدار الجديدة العمود الفقري لقوات تركيا الجوية بفضل قدراتها التقنية المرتفعة نسبيا، حيث تستطيع درونز بيرقدار اليوم التحليق على ارتفاع يصل إلى 24 ألف قدم (نحو 7.3 كيلومتر) لمدة تصل إلى 24 ساعة وتتمتع بمدى متوسط يُقدَّر بـ 15 كيلومترا، مع قدرة على حمل حمولة يبلغ وزنها 55 كيلوغراما، ومع هذا التطور الملحوظ في قدرات الدرونز المحلية، قرَّرت أنقرة الاعتماد عليها كسلاح رئيس في قتالها ضد المنظمات الكردية في جنوب شرق البلاد وعلى حدودها مع العراق، وبحلول يونيو/حزيران من العام الماضي 2019 كانت طائرات بيرقدار التركية قد حققت رقما قياسيا بواقع 100 ألف ساعة طيران خلال أقل من أربع سنوات، ووفقا لتقارير وسائل الإعلام التركية فإن الدرونز شاركت في غارات جوية ضد المنظمات الكردية في 11 محافظة على الأقل في جنوب شرق تركيا، كما تم استخدامها في خمس عمليات عبر الحدود في سوريا والعراق، آخرها عملية نبع السلام في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ومع النجاح الكبير الذي أثبتته الطائرة، خاصة في العمليات التركية ضد الأكراد، قرَّرت أنقرة توسيع(7) نطاق استخدامها الدرونز على طول سواحل بحرَيْ إيجة والمتوسط، وهو ما تسبَّب في احتكاكات متتالية بين تركيا وبين قبرص واليونان من ناحية أخرى، حيث اشتكت أثينا بالأخص من أن الدرونز التركية حلَّقت مرارا وتكرارا فوق جزرها في بحر إيجة، في حين أبدت قبرص في أكثر من مناسبة تذمُّرها من تحليق الدرونز التركية فوق سفن التنقيب عن الغاز التي أرسلتها تركيا لاستكشاف المياه المتنازع عليها بين قبرص واليونان، وبخلاف ذلك قدمت تركيا خلال العام الماضي ما لا يقل عن 12 طائرة من طراز بيرقدار إلى حكومة الوفاق الوطني الليبي المُعتَرف بها دوليا لمساعدتها في صد الهجوم الذي شنَّه الجنرال “خليفة حفتر” وميليشياته على طرابلس، في الوقت الذي دشَّنت فيه أنقرة جهودا حثيثة لترويج طائراتها بدون طيار للدول المهتمة وفي مُقدِّمتها قطر وماليزيا وأذربيجان، قبل أن تنجح بالفعل في توقيع عقد لتصدير 12 طائرة بدون طيار متطورة إلى أوكرانيا.
بفضل هذه النجاحات اكتسبت الدرونز ثقة ومكانة كبيرة داخل الجيش، وتحوَّلت إلى أيقونة ثقافية خارجه لدرجة أن أردوغان نفسه حرص على التقاط صور تذكارية مع درونز بلاده ووضع توقيعه على بعضها، وعلى الخُطى نفسها سار حُكّام المحافظات التركية خاصة في الجنوب الشرقي الذي يشهد تمردا من حزب العمال، وأصبحوا ضيوفا منتظمين على حظائر الدرونز التركية لتقديم المديح والثناء المتكرر للأيقونات الجديدة للعسكرية التركية.
ونتيجة لهذا الاهتمام الرسمي والشعبي تلقّى برنامج الدرونز في تركيا دفعة كبيرة(8) خلال العامين الماضيين، حيث تضاعف أسطول البلاد من طائرات بيرقدار من 32 طائرة عام 2017 إلى قرابة 94 طائرة قبل نهاية العام الماضي، نصفها على الأقل درونز مسلحة. وفي الوقت نفسه، نما حجم أسطول طائرات “أنكا” إلى 30 طائرة على الأقل، لتتحوَّل الدرونز إلى ركيزة أساسية لست منظمات أمنية وعسكرية تركية على الأقل، وهي الجيش والقوات الجوية والبحرية والدرك (الشرطة العسكرية) وجهاز الاستخبارات والمديرية العامة للأمن (الشرطة المدنية).
وقد دفع ذلك أنقرة لإنشاء شبكة خاصة من المواقع المهيأة لاستقبال الطائرات بدون طيار في جنوب شرق البلاد، وعلى طول حدودها مع سوريا وعلى سواحلها على بحر إيجة والبحر المتوسط، وزوَّدت هذه المواقع بالتجهيزات اللازمة بداية من حظائر استقبال الطائرات إلى أبراج الطيران، واليوم يُقدَّر إجمالي عدد قواعد الدرونز في تركيا بتسع قواعد على الأقل، وتُعَدُّ هذه المرافق ضرورية للغاية لتشغيل أسطول الدرونز التركي بالنظر لأن مدى معظم الطائرات المسيرة التركية لا يتجاوز مئة ميل في الوقت الراهن، ومعظمها يعتمد على أنظمة الاتصالات التقليدية وليس على الأقمار الصناعية.
بيد أن طفرة الدرونز التركية لم تقتصر على الزيادة في أعداد الطائرات وقواعد الدرونز فحسب، لكنّ مُطوِّري الدرونز الأتراك نجحوا في تحقيق قفزات تقنية ملحوظة خلال الأشهر الأخيرة، ففي أغسطس/آب 2018 نفّذت طائرات “أنكا” أول غارة جوية يتم التحكُّم فيها عبر الأقمار الصناعية، وفي ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه أكملت “أنكا” أول رحلة بمحرك من إنتاج محلي، وفي عام 2019 كسرت كلٌّ من “بيرقدار” و”أنكا” سجلات التحمُّل الخاصة بهما وطارت كلٌّ منهما لمدة أطول من 24 ساعة، وفي العام نفسه كشف منتجا الطائرات بدون طيار الرئيسان في البلاد “بيرقدار ماكينا” وشركة الصناعات الفضائية التركية عن خطط لصناعة طائرات بدون طيار عالية الارتفاع مرتفعة التحمُّل (HALE) باسم “أكينسي” و”أكسونغور” على الترتيب، ليضعا بذلك تركيا على مشارف حيازة جيل جديد أكثر تطوُّرا من الدرونز المسلحة.
في ضوء ذلك، لم يكن من المستغرب أن الحكومة التركية تولي أقصى درجات الاهتمام لجهود شركة “بيرقدار ماكينا” ومشروع “أكينسي” على وجه الخصوص، اهتمام ظهر في قرار الرئيس التركي في سبتمبر/أيلول الماضي منح الشركة إعفاء من الضرائب على الصادرات وضريبة القيمة المضافة، فضلا عن منحة تُقدَّر بـ 120 مليون دولار بهدف إنشاء مصنع جديد للدرونز، مع هدف واضح(9) هو إنتاج 36 طائرة من طراز أكينسي خلال العامين القادمين.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف الضخم تتعاون “بيرقدار ماكينا” مع شركة “Ukrspecexport” الأوكرانية لتزويدها بالمحركات التوربينية المتطورة التي لا تزال تركيا عاجزة عن إنتاجها محليا، على أن تحصل كييف في النهاية على 12 وحدة من الطائرات المتطورة بعد اكتمال عملية الإنتاج، وفيما يبدو فإن المسؤولين في أنقرة يترقّبون بشدة دخول الطائرة الجديدة للخدمة والتي يتم تعريفها على أنها “مقاتلة أرض – جو بدون طيار” وليس طائرة بدون طيار تقليدية، فمع القدرات المتطورة للطائرة في حمل القنابل وتوجيهها بدقة وإطلاق الصواريخ بمدى يبلغ 600 كيلومتر فمن المُرجَّح أنها ستحل محل طائرات “إف – 16” في العمليات التركية ضد حزب العمال الكردستاني، فضلا عن كونها ستُوفِّر لأنقرة إمكانات مراقبة جوية منخفضة التكلفة والمخاطر على مدار الساعة في مناطق بحر إيجة وشرق المتوسط.
ومع هذه النجاحات الكبيرة، لا يمكن تجاهل الإشارة إلى أن هذا البرنامج التركي الضخم والطموح لإنتاج الطائرات بدون طيار لا يمكن النظر إليه بحال بمعزل عن جهود أنقرة الأوسع لتأسيس صناعة دفاع محلية يمكن الاعتماد عليها وطموحها لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسلحة، لذلك فإن مشروعات الصناعات الدفاعية التركية اليوم لا تقتصر على الدرونز وإنما تشمل مجالات عدة(10) تبدأ من المركبات والمدرعات البرية وتمر بالسفن البحرية ولا تنتهي عند المشاريع الفضائية الجوية. ففي مجال الصناعات البحرية على سبيل المثال، أسست أنقرة عددا من المشروعات الضخمة وعلى رأسها “حوض بناء سفن إسطنبول” و”حوض البحرية المبارك لبناء السفن”، ونجحت في تأمين عقود تصدير بقيمة مليارات الدولارات مع باكستان وإندونسيا، وفي الوقت نفسه تقوم شركة “Sedef Shipbuilding” ببناء أول سفينة هجوم برمائية للبحرية التركية، وهي الخطوة الأولى في مشروع طموح لإنشاء حاملة طائرات محلية، فيما تضطلع شركة الدفاع المرموقة “أوتوكار” بعدد من المشروعات الضخمة مثل تصنيع دبابة “ألتاي” التي اكتسبت سمعة جيدة في الأعوام الأخيرة، وتنشط شركة “أسِلسان” في مجال تصنيع الإلكترونيات الدفاعية وتقوم بتصدير منتجاتها لأكثر من 60 دولة حول العالم.
تهدف أنقرة من خلال تنشيط صناعتها الدفاعية المحلية لتحقيق عدة أهداف في آنٍ واحد، وكما تشير(11) مؤسسة “ستراتفور” المرموقة للدراسات الاستخباراتية فإن أول هذه الأهداف هو توفير الأموال وتحفيز النمو الاقتصادي للبلاد، فمع امتلاك تركيا لثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو فإن البلاد تحتاج إلى استثمارات ضخمة في المعدات العسكرية خاصة مع رغبتها في التخلُّص من المعدات القديمة التي تعود لزمن الحرب الباردة. وفي هذا السياق فإن امتلاك صناعة دفاع محلية متطورة سيُوفِّر من عبء الفواتير الباهظة للإنفاق على المعدات والأسلحة الأجنبية، فضلا عن إسهامه في تنمية القطاع الصناعي المحلي واقتصاد البلاد ككل.
بجانب ذلك تسعى تركيا أيضا لتعزيز اكتفائها الذاتي والتحرُّر من هيمنة مورِّدي الأسلحة الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا اللتين رفضتا عشرات الطلبات من أنقرة للحصول على الأسلحة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وهو يجعل تقليل الاعتماد على الواردات الأجنبية هدفا حيويا لأنقرة، وأخيرا، ترغب أنقرة في استغلال صادراتها من الأسلحة كوسيلة لتعزيز حضورها في محيطها الجغرافي وتقديم نفسها كحليف يمكن الوثوق به للعديد من الشركاء ضمن خطتها الأوسع لاكتساب النفوذ.
على مستوى هذه الأهداف جميعا يبدو أن خطة تركيا تؤتي ثمارها، وإن كان ذلك وفق جدول زمني أبطأ مما كانت تطمح إليه، سواء بسبب القيود الاقتصادية أو المنافسة الضخمة التي تلقاها كقوة متوسطة تسعى إلى اقتحام مجالس الكبار، ولكن في مجال الطائرات بدون طيار على وجه الخصوص يبدو أن أنقرة نجحت في إثبات حضور لا يمكن تجاهله، ويمكنها أن تفخر -ولن تكون مخطئة في ذلك أبدا- أنها كانت إحدى القوى القليلة التي نجحت في كسر هيمنة الولايات المتحدة على السماء في زمان الدرونز القاتلة.
.
أثارت صور معلمة ثقافة دينية الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي في تركيا. وحظيت صور…
كشفت هيئة الأرصاد التركية، في بيان، عن أخبار حزينة لسكان إسطنبول الذين كانوا ينتظرون تساقط…
تحطمت سفينة حاويات تحمل اسم AMNAH لسبب غير معروف في ميناء أمبارلي مرداس بإسطنبول. …
أصدرت هيئة الأرصاد الجوية التركية، الاثنين، التحذير الأصفر لـ6 مدن تركية من سقوط أمطار غزيرة…
وجه وزير الدفاع السوري الجديد مرهف أبو قسرة، الاثنين، الإنذار الأخير لحزب العمال الكردستاني والأكراد.…
اندلع حريق في ساحة انتظار الحافلات العامة بمدينة بوردور عند منتصف الليل، حيث انتشرت النيران…
هذا الموقع يستعمل ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) لتحسين تجربة استخدامك.