فتح إسطنبول هو عصر النهضة في الشرق، كما أن الفاتح هو مهندس هذا الفتح وقائده. وفي الوقت الذي كانت فيه الأندلس تغرق أو يتم إغراقها، راح الفاتح ليفتح إسطنبول، ويؤسس حضارة جديدة في الشرق. وبفضل ذلك أصبح العثمانيون الذين يمثلون الإسلام إلى جانب الأمة التركية، أسياد النظام العالمي لقرون من الزمن. وعلى الرغم من أنها كانت ممتدة بهذا الشكل، إلا أنّ أصحاب هذه الحضارة كانوا يضمحلون مع مرور الوقت، حتى غدوا محكومين للنظام العالمي الذي شكّل معالم عصر النهضة الغربية.
لقد قامت الحضارة العثمانية على “العدالة والروحانية إلى جانب العقل”، أما الغربية فعلى “القوة والعقل”. تبدو الإنسانية اليوم على مفترق الطريق، فالعقول مبعثرة، والجميع يبحث عن مسالك جديدة. ومع ذلك فإن تاريخ الإنسانية قد تطور على أساس هذين المحورين (العثمانية والغربية)، ولم يجد بديلًا آخر عنهما. ولذلك السبب، تبدو الإنسانية مضطرة لاتباع إما نظام عالمي تهيمن عليه القوة والعقل، أو على نظام عالمي يرتكز على العدالة ويعتمد على العقل الذي يتغذى على الروحانية.
حينما نقول العقول مبعثرة أو مشتتة، فإن هذا التشتت موسمي كما الأمراض الموسمية الأخرى. على سبيل المثال، تزامنًا مع ذكرى فتح إسطنبول، الحدث الذي يعتبر من أهم نقاط التحولات في تاريخ العالم، نشهد هجمات تاريخية-نفسية من جميع أنحاء العالم تقريبًا. هجمات من أولئك الذين ينظرون لفتح إسطنبول على أنه ظلم، أو الذين يخجلون من نتائجه أو ينكرون ذلك أصلًا. إنهم على 3 أقسام؛ ولن يفلحوا أبدًا، إنهم يفسدون العالم بما يتفوهون به سلبًا وإيجابًا في كل ذكرى من كل عام. الأول؛ أصحاب المنحى العدمي، هؤلاء لا يمكنهم أصلًا قبول وتحمل حضارة ترى للروحانية مكانًا فيها. الثاني؛ الذين يرون أن هذا الفتح لا يليق بالأمة التركية، أم الثالث؛ فهم ضلاليو الشهرة الذين لا يعرفون أنفسهم. وهؤلاء مع الأسف يمكنك العثور عليهم في كل شريحة من شرائح كل شعب، في العقلاني-الوضعي، أو الإنساني، أو الإسلامي، أو الليبرالي، أو القومي، أو المتدين، أو العالم أو الجاهل وغير ذلك. إلا أنه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا، أن الشخص الذي ينتسب لتلك العقلية لا يمثل إطلاقًا أيّ شريحة من هذه الشرائح المجتمعية. من الخطأ توجيه ما يقترفونه من جهالة إلى شعب بأكمله، أو عرق أو دين أو حتى مفهوم وعقلية بأكملها، بمعنى آخر لا يمكن تعميم ما يقترفونه على غيرهم. إنهم يمثلون أنفسهم فقط وعقولهم المستأجرة، لكن هذا لا يمنع من كونهم خطيرين.
إن فتح إسطنبول ليس أقل شأنًا من فتح مكة، ولا داعي لأن يجن جنون أحد. إن فتح مكة الذي تحقق على يدي الرسول نقل الإسلام إلى رسالة عالمية. والشيء ذاته في فتح إسطنبول، حيث أدى إلى ثورة الحضارة الإسلامية التي تم استبعادها من الغرب بل وحتى السعي للقضاء عليها. ولذلك فإن بعض المصادر الغربية وصفت هذا الفتح بانه آخر يوم في العالم. إن الحضارة الجديدة التي ظهرت مع فتح إسطنبول، علّمت الجميع ليس المسلمين فحسب بل حتى المسيحيين البلقان؛ مبادئ العيش المشترك وفهم وقبول الأديان والأعراق الأخرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد عاش الصربيون إلى جانب البوسنويين، والأرثوذكس إلى جانب الكاثوليك. ولقد اعترف بهذه الحقيقة جميع المؤرخين الذين يمتلكون عقلًا سليمًا. ولذلك السبب لم يتسبب هذا الفتح بإزعاج المسلمين أو المسيحيين أو اليهود.
من الممكن فهد الدعوات “العدمية” التي تكنّ العداء لفتح إسطنبول. إلا أنه لا يمكن فهم تلك الهجمات التي تشن باسم العثمانيين أو العرب أو الإسلام في كل ذكرى للفتح من كل عام. هؤلاء الناس لا يعيشون مع القيم الأساسية للمجتمع الإسلامي، وليسوا في طليعة الصف الأول من أولئك الذين يريدون كشف ما يمسى الحقيقة، وبالتالي هؤلاء ليس لهم مكان للحديث في هذا المقال.
لأعطِ مثالين على ذلك؛ وليكونا من الداخل والخارج. الذين بنوا حياتهم على مدح التاريخ العثماني والسلاطين، يشعرون الآن بالانزعاج من الاحتفال بذكرى الفتح. وبناء على عبارة مثيرة للجدل تم تمريرها، فقد رجحوا خيانة إرث الفاتح (عبر مواقع التواصل الاجتماعي)، وذلك من أجل أن يبقوا مخلصين لوصية السلطان عبد الحميد حسب زعمهم. ومع ذلك فإن هؤلاء الأشخاص قد أحبوا العثمانيين وسلاطينهم لأنهم يتفوقون مع مبادئ أهل السنة، ويقفون ضد الشيعة والوهابية، إلا أن الدافع إذن وراء الهجمات الموسمية الآن ليس مفهومًا، ما هو؟.
أما المثال الثاني فهو في الكويت التي تأسست بإذن من الدول العثمانية وتعيش الآن في رفاهية ونعيم. شخص يقول أنه يحمل دكتوراه من مصر، ويبث من إحدى الأماكن الفاخرة بالكويت. هذا الشخص السفيه الذي يجري لاهثًا وراء تزييف الحقائق في فتح إسطنبول والنيل من قائده محمد الفاتح، كالعديد من المؤرخين في العالم الإسلامي. هذا الشخص السفيه يزعم من خلال ما ينشره من فيديوهات وغيرها أن الفتح الذي بشر به النبي لم يتحقق، وأن القائد الذي امتدحه ليس محمد الفاتح.
وهو يعتمد بسفاهته تلك على أن محمد الفاتح متهم بالشرك بسبب اعتقاد شيخه آق شمس الدين بوحدة الوجود التي تعتبر من أسباب الشرك بنظره. ما يعني أن الذي فتح إسطنبول هو شخص مشرك، وأن الفتح الذي بشر به النبي لم يتحقق بعد.
باسم من ونيابة عمن إذن يصدّع رؤوسنا بذلك؟ يفعل ذلك باسم السلفية التي يعارضها بشدة بالمناسبة، وبعبارة أخرى الطرفان اللذان يتحركان من نقطة مختلفة يتفقان ويلتقيان عند الهدف ذاته. لا علينا فهناك من المؤرخين وعلماء الدين وعلماء الاجتماع ما يكفي للرد على أهل الباطل والجهالة من هؤلاء.ليوو
دعونا نترك الأمر لهم. وهنيئًا للعالم الإسلامي كله بمناسبة الذكرى الـ567 لفتح إسطنبول.
.