لقد بدأ عهد مرحلة جديدة في ليبيا مع سقوط ترهونة أمس. قبل يوم من ذلك فقط سقط مطار طرابلس الذي كان تحت سيطرة الانقلابي حفتر لفترة طويلة وكان من خلاله يغلق الأجواء الليبية بأكملها. وكلا الحدثين يعتبران في المعنى العسكري نجاحًا كبيرًا. وراء كل نصر ونجاح نرى مشاهد سقوط أو تدمير أو حتى السيطرة على الأسلحة ذات التقنية العالية التي تمولها الإمارات وتوفرها فرنسا وروسيا للانقلابي حفتر، وإن وراء كل مشهد من ذلك حكاية عظيمة، وإن بطل هذه الحكاية تركيا بطائراتها المسيرة وسلاحها الجوي ودعم وشجاعة قواتها المسلحة وعقل استخباراتها.
كما تشاهدون، فإن جميع الموازين على الساحة الليبية قد انقلبت تمامًا، مع الدعم الذي تقدمه تركيا منذ وقت للحكومة الشرعية المنتحبة هناك حكومة الوفاق. حتى وقت قريب، كانت الدول الداعمة للجنرال السابق الانقلابي حفتر، مثل فرنسا والإمارات ومصر وروسيا في وضع حصار مطبق قد فرضته على طرابلس التي تعتبر مركز حكومة الوفاق الوطنية. وفي تلك الأثناء كانت حكومة الوفاق المعترف بها في الأمم المتحدة كممثل عن الشعب الليبي، متروكة تحت الحصار في طرابلس، وكان بنيها وبين سقوطها مجرد رمق. إلا أنها في اللحظة الأخيرة خرجت تركيا ضد ذلك كله، ومنذ ذلك الحين غيرت كل الموازين. والآن فإن الهارب هو حفتر، والمطارِد هو حكومة الوفاق. أما الإشارة حول إلى أين ستستمر هذه المطاردة، فلقد أعطى الرئيس أردوغان تلك الإشارة خلال استقباله رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج في المجمع الرئاسي بأنقرة:
“مع الأسف هناك رؤساء وممثلو دول يسيرون وفق مفهوم انه لا يمكن التخلي عن حفتر. إننا نذكّر هؤلاء مرة أخرى، أن الشخص الذي لا يعبأ بمشاكل الشعب الليبي، ويشكل خطرًا حقيقيًا على مستقبل ليبيا، لا يملك القدرة والأهلية للجلوس على طاولة المفاوضات. وإن هذا الشخص ومن يقدم له دعمًا عسكريًّا وسياسيًّا وماليًّا هم أكبر عقبة على طريق السلام.وإن التاريخ سيحاسب كل من أغرق ليبيا بالدموع والدماء من خلال تقديم الدعم للانقلابي حفتر”.
لقد قال أردوغان هذه الكلمات بعد أن أكد دعمه لعلمية الحوار في ليبيا، ولكن تحت رعاية الأمم المتحدة وقيادة الشعب الليبي، وبمشاركة كافة الشعب الليبي. وإن هذا يعني أن حفتر لم يعد جزءًا من الحوار أو العملية السياسية في ليبيا.
في الواقع لقد تم منح هذه الفرصة الأخيرة لحفتر في برلين، قبيل وقت قصير من شن هجماته. لقد تم منحه فرصة أو حق الحوار على الرغم من جرائم الحرب التي ارتكبها في ليبيا، إلا أنه توهم طامعًا من خلال ذلك أن بإمكانه الإطاحة بحكومة طرابلس والسيطرة على المدينة بأكملها ومن ثم السيطرة على جميع الأوضاع برمتها لوحده
إلا أن أطماعه تلك سارعت نحو نهايته، لأن ما تعود عليه من السيطرة والتغلب على باقي الأطراف من خلال الانقلاب وما شابه لم يكن عادة يمكن معالجتها أو التحكم بها، وليس من الممكن اعتبار شخص بهذه العادة طرفًا موثوقًا به في أي عملية سياسية. غنه خطر حقيقي على الشعب الليبي ويجب حماية العشب من هذا الخطر.
لقد وجه أدروغان في الحقيقة رسالته بشكل واضح وبيّن: “لن نترك إخوتنا الليبيين تحت رحمة المرتزقة والانقلابيين”.
بالمناسبة لقد لفتت نظري رسالة لباحث تركي ذي قيمة يعيش في فرنسا منذ وقت، يعرض برسالته المدى الذي أثارته النجاحات التي تسجلها تركيا في ليبيا في الآونة الأخيرة. إن أكثر ما لفت نظري في رسالته هو تسليطه الضوء على قلة الاهتمام بهذه الانتصارات من قبل وسائل الإعلام في تركيا، وعدم وصولها للمستوى المتوقع من الاهتمام. يقول صديقي الأكاديمي، “إن الإعلام الفرنسي والأوروبي يولي أهمية كبيرة لذلك ويعتبر النجاح الذي تقدمه حكومة الوفاق مؤخرًا هو نجاح وتقدم تركي واضح، إلا أن هذا الاهتمام الإعلامي هناك لا ألحظه في الإعلام التركي”.
مع العلم أن ما تقوم به تركيا في ليبيا يفوق من حيث الأهمية وحتى التاريخ قضية قبرص، لكن ومع ذلك فإن وسائل الإعلام تمر عابرة دون الاهتمام المطلوب. بعد رسالة صديقي الأكاديمي، أدركت حقيقة أن كل ما أتابعه من وسائل إعلام عربية وإنجليزية تسلط الضوء على هذه القضية أكثر حتى من وسائل الإعلام التركية. هناك اللقاء الذي جرى بين الرئيس أروغان والسرّاج يعتبر حدثًا من الأهمية بمكان إلى جانب الانتصارات التي حققتها حكومة الوفاق المدعومة من قبل تركيا.
حتى أكون صريحًا وصادقًا فإنني أعشر بالخوف دائمًا من العواطف المبالغ فيها في مثل هذه المواقف. لأننا نعيش في خطر تشكله هذه العواطف الآنية والسلوكيات الحماسية التي تتحول في نهاية المطاف من مشاعر وطنية إلى شوفينية ضارة. ولذلك سيكون من الجميل جدًّا الاستفادة من ذلك وتحويلها إلى دروس نافعة ضمن وعي تاريخي سليم.
بعد نقل رسالة صديقي الأكاديمي سأنقل لكم جوابي له؛ دعنا ننظر للقضية من جانب إيجابي، وهو أن تركيا قد تجاوزت إذن العواطف الجياشة الحماسية والآنية التي تنشأ عند هذا النوع من الانتصارات. واصبح هذا الأمر روتينيًّا بالنسبة لتركيا. وإن هذه النجاحات التي تسجلها تركيا في كل المجالات تشير إلى أنها قد وصلت إلى نطقة معينة من النجاح.
ثانيًا، على الرغم من أن هذه الانتصارات تمت بدعم من تركيا، فإنها انتصارات رسمية لحكومة الوفاق الوطنية. وإن المشهد الدولي حتى ولو كان يرى ذلك تقدمًا ونصرًا تركيًّا، فإن هدف تركيا في ليبيا ليس الحرب، بل السلام وتحقيق الاستقرار، وتسليم ليبيا لليبيين. وإن عدم ظهور عواطف حماسية مبالغ فيها يعتبر اتساقًا متأصلًا مع ما تقوم به تركيا، وعلامة على أهدافها الواضحة.
أخيرًا ليكن ذلك درسًا للذين يريدون تدمير ليبيا، ويسألون بوقاحة عما تفعله تركيا هناك، للمحتلين والمستعمرين والانقلابيين.
.
ياسين اكتاي