تركيا – اليونان: ساعة المواجهة؟

عود ثقاب العلاقات التركية اليونانية دائم الاشتعال لكن الاقتراب من فتيل الانفجار محظور على الطرفين بحكم لعبة التوازنات الإقليمية والدولية. لو ترك الأمر لهما وحدهما لكانت الحرب اندلعت أكثر من مرة فهناك ما يكفي من الأسباب والتبريرات لاتخاذ قرار من هذا النوع. هذا طبعا إلى جانب جهوزية العديد من العواصم والدول القريبة والبعيدة التي تصب الزيت فوق النار وتنقل الحطب استعدادا للشعلة الكبرى.

إلى جانب أسباب التوتر الكلاسيكية المعروفة تاريخيا وسياسيا وجغرافيا وعقائديا في العلاقات التركية اليونانية، هناك دائما أسباب ودوافع جديدة تضاف إلى لائحة التأزم والتصعيد. آخرها كان مشاريع وخطط التنقيب عن الطاقة في مناطق بحرية لم تحسم مسألة النفوذ والسيادة عليها في بحري إيجه والمتوسط وتحريك مسألة متحف “أيا صوفيا” الذي تستعد أنقرة لإعادته إلى ما كانت وضعيته عليه قبل العام 1935 جامعا عثمانيا بتوصية من السلطان محمد الفاتح تعود إلى ما قبل أكثر من 567 سنة.

الاتفاقية التركية الليبية الاخيرة في تشرين الثاني المنصرم حول ترسيم الحدود بين البلدين ردا على محاولات استبعادهما عن منتدى الغاز والطاقة واصطفاف القاهرة الخماسي، قابله تحرك يوناني جديد عبر تفاهمات ثنائية وإقليمية تحسن من وضع أثينا بعد الضربة الأخيرة التي تلقتها مصالحها هي وقبرص اليونانية.

الذي يقود المشهد بعيدا عن الأضواء هو فرنسا طبعا وهي تفعل ذلك باسم الاتحاد الأوروبي وتريد المحاربة بسيف حماية نفوذه ومصالحه الاستراتيجية المتضررة من تركيبة التحالفات الجديدة المعقدة والتي تراجعت في العقد الأخير لصالح التموضع الروسي والأميركي في شرق المتوسط والبحر الأسود. استراتيجية الانفتاح في مطلع الألفية تحت عنوان “دبلوماسية الزلازل”، بعد تعرّض البلدين إلى كارثتين طبيعيتين قرّبتهما إنسانياً، تبخّرت عام 2004 بعدما حصلت قبرص اليونانية على العضوية في المجموعة الأوروبية على مرأى ومسمع أنقرة بتشجيع فرنسي كامل. يبدو أن فرنسا لن تتوقف عن محاولات تضييق الخناق على أنقرة في شرق المتوسط وشمال أفريقيا. عملية “ايريني” الأوروبية متواصلة لمراقبة التحركات البحرية التركية باتجاه ليبيا. ثم التشجيع الفرنسي لكل من إيطاليا واليونان على مواجهة “دبلوماسية الكمامات” التي نجحت تركيا في تحريكها أوروبيا لكنها لم تحل دون الاتفاقية البحرية الإيطالية اليونانية ورغم الجهود التي بذلتها أنقرة للافراج عن الرهينة الإيطالية في الصومال. الاتفاقية البحرية اليونانية الإيطالية تريد أثينا تتويجها باتفاقية مماثلة مع مصر ستناقش تفاصيلها في القاهرة بعد أيام.

باريس ما زالت تراهن على توازنات إقليمية من هذا النوع دون الضوء الأخضر الأميركي والروسي. لكنها تتناسى أن أنقرة وأثينا يجمعهما تحالفات مشتركة تحت سقف منظومات أمنية وسياسية مثل حلف شمال الأطلسي والمجلس الأوروبي والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وهي تكتلات ليس من مصلحتها وقوع الانفجار وتقديم خدمة مجانية من هذا النوع لروسيا وبعض العواصم في المنطقة.

التراشق الكلامي بين القيادات السياسية والعسكرية التركية واليونانية لا يتوقف لحظة. آخر ما سمعناه كان كلام وزير الدفاع اليوناني نيكوس بانايوتوبولوس الذي قال إن بلاده مستعدة لكل شيء في سبيل حماية حقوقها السيادية، بما في ذلك العمل العسكري ضد تركيا. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يتأخر في الرد “سفن التنقيب التركية في شرق المتوسط وعلى مقربة من سواحل قبرص اليونانية وجزيرة كريت ترافقها السفن الحربية والطائرات، وأي خطأ ترتكبه اليونان ستلقى جزاءه “. لا بل إن تذكير وزير الدفاع التركي خلوصي أكار القيادة اليونانية لمراجعة حساباتها على الورقة والقلم جيدا وأن ما سمعناه من أثينا هو “زلة لسان” يعكس حقيقة التجاور الصعب الممزوج بروح التحدي والجهوزية الدائمة للمنازلة رغم أن الحسابات السياسية والدبلوماسية هي التي تحول دون وقوعه حتى الآن. أكثر من احتكاك حصل بين القوات التركية واليونانية بحرا وجوا وبرا لكن الخشية من تطوره السريع هي التي كانت تحول دون توسيع رقعته وتحوله إلى مواجهة عسكرية شاملة. ربما خطوط التواصل الساخنة بين البلدين ومراكز القرار الأطلسية التي تجمعهما تحت سقف واحد في بروكسل كان لها دورها الكبير أيضا. الناتو لا يريد أن يقدم خدمة مجانية لموسكو التي تطمح لاختراق تحصينات الحلف عبر خدمات تعرضها على الجانبين التركي واليوناني كان آخرها تزويد البلدين بمنظومة صواريخ دفاعية وتوقيع عقود نقل الطاقة الروسية إلى أوروبا عبر تركيا مع دعوة دائمة لليونان وإسرائيل للالتحاق بهذا الخط الاستراتيجي الذي يقلق واشنطن ويزعجها.

اقرأ أيضا

انفجارات تستدعي استجابة عاجلة: النيران تلتهم الأحياء الفقيرة…

باريس المستبعدة عن أكثر من مشروع استراتيجي في المنطقة هي التي توجه النصائح لليونان ومصر وقبرص اليونانية لتنسيق المواقف والمصالح في شرق المتوسط وهي التي تشرف على نسج هذه التحافات محاولة توسيع رقعتها كما فعلت في القاهرة مؤخرا عبر دعوة الامارات للالتحاق بهذا الاصطفاف طالما أنه يخدم هدف محاصرة تركيا وتضييق الخناق عليها في الشرق الأوسط ويضعف نفوذها في سوريا وشمال أفريقيا ويبعدها عن ليبيا والسودان والصومال. واشنطن هي التي تحول دون الانفجار وتطالب البلدين بعدم الخروج عن روح ونص تفاهمات الناتو والتمسك بفرص الحوار لأن المعركة ستكون خاسرة على الجميع. روسيا قد تريد وقوع الصدام التركي اليوناني لأنه سيضعف النفوذ الأميركي قبل كل شيء ويحسن من موقعها في شرق المتوسط والبحر الأسود لكنها قد ترجح أخذ ما تريده من أنقرة وأثينا لناحية جمع مصالحهما تحت العباءة الاستراتيجية الروسية وهي نقطة أخرى تقلق أميركا وتدفعها للتحرك الدائم باتجاه عدم خسارة شريكين وحليفين مهمين لها مثل تركيا واليونان.

المناورات المصرية والإماراتية والإسرائيلية هنا لن تقدم وتؤخر كثيرا في ملف يحمل كل هذه الحسابات الدولية والدليل هو الفشل السريع لبيان القاهرة الخماسي والتحرك الأطلسي الأخير للإعلان عن وقوفه إلى جانب أنقرة في ليبيا وإحراق أوراق المشير خليفه حفتر وكلها خدمات تقدم لتركيا إرضاء لها، قابلها على الفور تنازلات روسية لتركيا أيضا عبر سحب مجموعات “فاغنر” من غرب ليبيا وإعلان موسكو عن دعمها للرجل البديل في بنغازي عقيلة صالح والدعوة للحوار السياسي في ليبيا ومطالبة مصر بمسرحية “المبادرة” التي تكرس انتهاء دور المشير في الملف الليبي بضوء أخضر روسي.

موسكو ستحاول لعب ورقة غاز شرق المتوسط في منطقة غير بعيدة عنها جغرافياً. الهدف الحقيقي هو فتح الطريق أمام التحكم الروسي الاستراتيجي بمسار ومستقبل أكثر من أزمة إقليمية يكون الغاز والتبادل التجاري والاقتصادي مركز الثقل فيها.

اليونان والقبارصة اليونان يعرفان مدى صعوبة وتكلفة نقل غازهم إلى أوروبا من دون الشراكة التركية في المشروع . اليونان تعرف أيضا أهمية وقيمة “معبر الغاز” التركي الذي هو أوفر وأنجع من خطط اصطفافات إقليمية مع مصر وإسرائيل لن تقدم وتوخر كثيرا في حسابات روسيا وأميركا ورهانهما الدائم على المنطق والواقعية التي تقول إن الطرق كلها تتقاطع عند المربع التركي في المنطقة.

من حاول استبعاد تركيا من منتدى غاز الشرق المتوسط ​​ الذي تشارك فيه اليونان وإسرائيل وقبرص ومصر وإيطاليا والأردن، يحاول هذه المرة في القاهرة عبر تقارب خماسي تلتحق به أبو ظبي من الخارج. لكن واشنطن وموسكو تتفقان مع أنقرة على أن تحركات من هذا النوع لن تنجح لأنها غير واقعية وعملية طالما أن الشريك التركي غائب عنها.

بقدر ما هو كبير حجم التباعد التركي اليوناني فإنّ فرص التقارب تزايدت مع اكتشاف الغاز في شرق المتوسط، وبروز مشروع نقل الغاز الروسي عبر تركيا واليونان إلى أوروبا وحاجتهما إلى بعضهما في مسائل سياسية وإنسانية وجغرافية. قيادات تركية يونانية بعقلية واقعية وبراغماتية نجحت حتى الآن في ابعاد شبح الحرب وإبقاء الخلافات داخل علبة الباندورا، لكن هناك من يصر على فتحها وإخراج السموم لتحقيق أهدافه فهل تمنح له هذه الفرصة؟

.

 بواسطة / سمير صالحة  
تعليق 1
  1. Amr يقول

    الحاجه الوحيده اللى العالم كله يعرفها أن تركيا مرعوبه من اى صدام مع اى دوله لأنها دوله كثيرة العداءات وسرعان ما سيأتي حول أعداءنا العالم.
    اول مرة نشوف دوله بحجم غباء حاكمها زى قردوغان فى جلب كم العداءات لبلده فى وقت واحد واللعب بالنار على كافه المستويات ومتوقع أن يفلت من العقاب أو سينتصر فى النهايه!!
    قردوغان أصبح مكروه دوليا وشعبيا واصبح وحيد معزول لا يرفع من شأنه سوا ذبابه الالكترونى النفضوخ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.