لقد كان منع آيا صوفيا من صفة المسجد في الماضي، بمثابة قيود تم ضربها نحو هذه الأمة. لا يمكن لأحد وهو يشعر بنوع من الاستقلال أن يرضى عن هذه المعاملة السيئة بحق الأمة والتي تجسدت في التعامل مع آيا صوفيا بهذا الشكل.
لكن دعونا نسلّم انه في أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت البلاد في وضع من الواجب تقييمه نظرًا للظروف التي كانت حاضرة آنذاك، حيث أن الصفة الأبرز لهذا الوضع بالنسبة للمسلمين هي أنهم ظلوا بدون رأس على الساحة السياسية العالمية، لدرجة أنه لم يتبق دولة ولا كيان سياسي حتى بإمكانه تمثيل عالم إسلامي ضخم مترامي.
أما الدول التي أقيمت على أنقاض أرضي الدولة العثمانية؛ لم يكن لأي من تلك الدولة همّ اسمه الإسلام، بل إنها في الحقيقة تم تأسيسها مع المحتلين والمستعمرين من أجل أن لا يكون الإسلام هو الهم والقضية لأحد. لقد انسحبت تركيا بكامل إرادتها آنذاك من قيادة العالم الإسلامي وتمثيله، من خلال إنهاء الخلافة. حتى هذا القرار بحد ذاته لم يكن يتناسب مع أي نوع من العقلانية من حيث المنفعة السياسية والاقتصادية للبلاد.
إذا لم يكن استقالة تركيا آنذاك من موقعها الذي كان يخولها لقيادة عالم عن رضا قلب؛ خيارًا، إذن ما السبب المجبِر الذي دفعها لذلك، ولعل الجواب عن ذلك يتجلى اليوم، حيث أن الجواب في قلب السؤال ذاته.
وإن آيا صوفيا هي اللغز الذي يكمن في داخل هذا السؤال. إن جدران آيا صوفيا تتحدث عما تم من تعطيل للعقل التركي والمسلم وتعطيل للإرادة. سأقول أنها تمثل جدران البكاء بالنسبة للمسلمين، لكن حتى هذا التعبير ليس مناسبًا. في الحقيقة إنني لا أجب من الصحيح أن يظل الوعي المسلم عالقًا في الماضي بين دعاوي وأحداث تاريخية، ليحمّل مسؤولية تلك الدعاوي لواقعنا اليوم أو يجعل له دور فيها. إن الوعي التاريخي المسلم موجّه نحو المستقبل لا الماضي. لا يركز على قضايا الدم ومشاعر الانتقام، بل على أكثر أشكال المستقبل إيجابية، يركز على إرادة تأسيس منظومة تقوم على محاسبة الفاعلين اليوم بناء على ما يقترفونه اليوم. ولا تزر وازرة وزر أخرى.
نحن حينما ننظر للماضي لعظمة أجدادنا وإحسانهم، فنتبنّى القيم ذاتها ونجسد المواقف ذاتها، نكون قد حققنا شوطًا كبيرًا. وخلاف ذلك من تمسك غير محمود بأدبيات “الأجداد” التي ربما لسنا جديرين بها؛ فإن ذلك لن يغطي على عيوبنا أو تقصيرنا في الحاضر، ولن يعوض شيئًا مما ينقصنا. نحن اليوم لسنا في صدد قطع مسافات نحو أجدادنا العظماء، بل نحو اليوم والمستقبل.
من الواجب أن نعلم بأنّ قرار آيا صوفيا اليوم ليس شيئًا ولا أمرًا عاديًّا أو بسيطًا. لقد كان وراء هذا القرار وعي وإرادة أكبر بكثير من قضية تحقيق رؤية الأجداد العظماء. خلفية هذا القرار يشير إلى أن تركيا تملك من القوة والقرار لتحمل مسؤولية ذلك أمام العالم كله لو اقتضى الأمر.
ولذلك السبب ليس الأمر بسيطًا يقتصر على مجرد إعادة آيا صوفيا مسجدًا، بل إنه ترجمة لوضع العالم الإسلامي اليوم. من الكلمات التي توضح ذلك بشكل جيد للغاية؛ قالها الرئيس أردوغان الذي تشرف بالتوقيع على هذا القرار؛ “إن قيامة آيا صوفيا، هي بشارة تحرير المسجد الأقصى”.
لقد عرّفنا القدس من قبل على أنها مرآة العالم، حيث تجسد وتلخص الحال الذي يكتنف العالم اليوم. وفي الواقع يمكن أن ينطبق الشيء ذاته على آيا صوفيا، حيث تعكس آيا صوفيا وضع وأحوال العالم كذلك. ولذلك فإن قيامة آيا صوفيا اليوم كما وصفها الرئيس أردوغان بالقول “لقد أشعلت شعلة الأمل ليس فقط للمسلمين، بل معهم كل المظلومين والمضطهدين والمستغَّلين في هذا العالم… إنها تفيد بأنّ لدى الأمة التركية ما تقوله للمسلمين وللإنسانية كلها في هذا العالم”.
إن قضية افتتاح آيا صوفيا لا تتعلق بحزب العدالة والتنمية والحركة القومية فحسب، بل بالغالبية العظمى من جميع مكونات الشعب التركي الذي استقبل القرار بفرحة عارمة وعواطف جياشة، ولقد كان الرئيس أردوغان وسيلة نحو تسهيل هذا الأمر كما أظهر لأي درجة هذه القضية تعتبر عاملًا مهمًّا في توحيد تركيا.
بصرف النظر عن مواقف بعض النواب او السلطات القضائية، فإن الموقف الإيجابي العام للشعب الجمهوري، يعكس بدوره أبعاد الاستجابة الاجتماعية الكبيرة لهذه القضية.
أما انعكاس ذلك على العالم فمن الواجب توضيح ذلك على حدة، وكيف تم استقبال الأمر بعواطف جياشة صادقة. حيث على الرغم من المواقف المتوقعة لوسائل الإعلام الخاضعة لبعض الدول، إلا أنه كان واضحًا وجليًّا أن الخطوة قوبلت بحماس وترحيب كبيرين.
وفي المناسبة، يمكننا القول بأن المناقشات حول الحكم الإسلامي في تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد ، يعتبر بمثابة مفارقة تاريخية.
حيث أن هذه النقاشات هي نقاشات ماضية ينبغي إجراؤها في عام 1453 عند فتح إسطنبول.
لم يتخذ قرار اليوم بتحويلها من كنيسة إلى مسجد، بل إن القضية اليوم تكمن في كسر القيود التي كانت تجثم على صدورنا. إنها قضية استعادة مبنى كان مسجدًا على مدار 567 عامًا. بالطبع لا يمكن إجراء النقاشات الأخرى بشكل منفصل، لكن علينا التمييز بين ما هو مفارقة تاريخية كذلك.
في النتيجة علينا أن نقوم بهذه النقاشات ونحن ننظر إلى تاريخها ونتبصره.
“إن قيامة آيا صوفيا، هي رمز تصميمنا على حماية وصون أمانة شهدائنا ومناضلينا بأرواحنا إذا لزم الأمر”.
مبارك علينا ذلك والحمد لله.
.
عرض التعليقات
الشعب التركي كم انت رائع فلولا مساندتك لم تكن أيا صوفيا مسجد وكم سمو الرئيس اردغان اخذ خطوه جريئه تسجل له في التاريخ