ذكرى الانقلاب الغادر

الخامس عشر من تموز/ يوليو ذكرى انتصار إرادة الشعب التركي على الانقلابيين، ذكرى يتذكرها الأحرار في كل العالم، لتعطي الأمل لشعوبنا العربية بأنها إذا ما امتلكت إرادتها وعزيمتها فإنها تستطيع الانتصار والنجاح.

كانت ليلة ليست كغيرها من الليالي، يوم اختلط فيه الحزن الشديد والبكاء والفرحة الشديدة والبهجة ودموع الفرح، وما أجملها من فرحة!

أتذكر عندما سمعت الخبر، كنت في السيارة مع والدي في العاصمة الأردنية عمّان، قرأت الخبر على “تويتر”، لكني في بداية الأمر لم أصدق الخبر، وبعد دقائق معدودة للأسف تم تأكيد الخبر، بأن هناك محاولة انقلابية على الرئيس والحكومة وعلى صوت الشعب التركي. شعرت بحزن شديد، وتذكرت ما حدث للرئيس المصري الشهيد محمد مرسي، عندما انقلب عليه العسكر بنفس الطريقة، فقلت في نفسي: هل سيذهب مجهود حزب العدالة والتنمية على مدار 12 عاما هباء منثورا بسبب تدخل الجيش مرة أخرى؟ ولا ننسى دولة كتركيا عاشت الانقلابات العسكرية عشرات السنين، وعاش الشعب التركي مرارتها وقسوتها.

كانت الصورة في بداية المشهد سوداوية، فالجيش يسيطر على مفاصل الدولة، كالتلفزيون الرسمي وإصدار البيان الأول، والجسور المعلقة التي تربط إسطنبول الأوروبية بالآسيوية، ومدرعاته في كل مكان، والطائرات تقصف المتظاهرين بكل عنجهية، والإصابات بالعشرات، والعالم يترقب بصمت، وبعض الدول أصدرت بيانات بأنها قلقة حيال ما يجري في تركيا، فالغموض يلف المشهد برمته.

ولا ننسى الاحتفالات في الإعلام السوري التابع للنظام بسقوط نظام أردوغان، حسبما يسمونه، والفرحة على وجوه الإعلاميين المصريين التابعين للنظام الانقلابي، والهاشتاغات ومئات المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي (خصوصا على تويتر) للذباب الإلكتروني؛ فرحا بما حدث في تركيا. ولا ننسى نشر بعض القنوات أخبارا كاذبة ومضللة بأن الرئيس أردوغان يطلب اللجوء إلى ألمانيا!

لقد كانت ليلة ليلاء وقاسية بلا شك. فبينما الغموض مسيطر على الأجواء، تساءل الجميع: أين الرئيس؟ هل قتلوه؟ هل اعتقلوه؟

لقد كانت مكالمته ملهمة ولحظة تاريخية لن ينساها التاريخ، مكالمة عبر تطبيق الفيس تايم لم تتجاوز خمسه عشر ثانية، ومن دون أي بروتوكول رسمي خاطب أردوغان الأمة، خاطبهم بصفته كرئيس وقائد.

كان الرئيس أردوغان صامدا، وهو من يعرف عنه بأنه شجاع، فلم يتراجع بتلك الليلة، فقد قرر مواجهه الانقلابيين حتى الموت. دعا الشعب التركي للنزول بالملايين إلى الميادين لمواجهة الانقلاب، وأمرهم بالذهاب إلى المطار؛ لأنه كان يخطط للهبوط فيه عبر طائرة مدنية، ورأينا الملايين في الشوارع خلال ساعات قليلة تدافع بصدورها العارية أمام الدبابات والطائرات والجنود. رأينا شعبا عشق وطنه، وأراد الدفاع عن صوته وكرامته من غدر العسكر.

ولا ننسى دور المخابرات التركية بنزولها إلى الشوارع بلباس مدني وهم مسلحون، فكانت عملية متكاملة من صمود الرئيس وحكومته والشعب التركي وشرفاء الجيش التركي من قادة وعسكريين.

وتوجه نواب الأمة إلى البرلمان للدفاع عن صوت الشعب، فالبرلمان هو بيت الشعب وملكه، ولا ننسى أيضا دور المساجد التي كان لها دور كبير ومهم في بث الحماس والأمل للتضحية من أجل الوطن. كانت لوحة جميلة من هذا البلد الكبير.

ومن الجدير بالذكر اهتمام الشعوب العربية في تلك الليلة، وخوفها على ضياع التجربة الديمقراطية، فغالبية الشعوب العربية تنظر لتركيا كمثال رائع بحكم الشعب وإرادته. تفاعلت الشعوب العربية مع الحدث، بل بعض الجاليات العربية شاركت الأتراك هذه الملحمة العظيمة، ونزلت إلى الميادين.

كانت ليلة تاريخية بكل ما تحملها الكلمة من معنى، ليلة سيكون لها ما بعدها بلا شك. من أراد إعادة تركيا إلى الحظيرة العسكرية فشل، ومن كان يمني النفس بإفشال التجربة الديمقراطية فشل أيضا، وانتصر الشعب.

وهنا لا بد لنا من ذكر أن الشعب التركي بكافة أطيافه السياسية – المعارضين قبل المؤيدين – رسموا لوحة جميلة، وهذا يدل على تشبع التجربة الديمقراطية لدى الشعب، فكل الأحزاب السياسة رفضت الانقلاب، وهذا موقف رائع جسدته الأحزاب ومن خلفها الشعب التركي، فرغم كل الخلافات فقد وحدها رفض الانقلاب وعدم عودة عقارب الساعة إلى الوراء.

لا شك في أن القوى العظمى كانت تراقب بصمت وتمني النفس بانتصار الانقلاب، حتى أن تركيا اتهمت ضمنيا ولو بشكل غير مباشر ضلوع أمريكا بهذا الانقلاب، خصوصا اعتقال الراهب الأمريكي أندرو برونسون التي اتهمته أنقرة بالتآمر مع الانقلابيين جماعة فتح الله غولن، كما اتهمت بعض الدول العربية – التي لم تسمها تركيا – بدعم الانقلابيين وتمويلهم بالمال والتخطيط والدعم اللوجيستي.

تركيا اليوم بعد أربع سنوات من هذه الذكرى أقوى وأكثر استقلالية بقرارتها المتعلقة بأمورها الداخلية والخارجية.

وفي هذه الأيام حكم مجلس الدولة ببطلان تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف، وأصدر الرئيس التركي أردوغان قرارا بإرجاع آيا صوفيا إلى وضعه كمسجد. وفي هذه الخطوة الجريئة – والتي قد تعادل إفشال الانقلاب – دلالة على استقلالية تركيا من التبعية للغرب، رغم معارضة الغرب لهذه الخطوة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واليونان وفرنسا.

.

بواسطة/ محمد حامد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.