صدرت ردود أفعال دولية من أماكن مختلفة حول العالم، عقب قرار إعادة آيا صوفيا إلى وضعه كمسجد بعد 86 عامًا من الانقطاع، ولقد كان بعض تلك الردود مثالًا على الأحكام المسبقة والتعصب المنحاز وعدم التوازن التاريخي. وإن القاسم المشترك بين جميع تلك الردود هو “كراهية تركيا”، فضلًا عن أنها أظهرت إلى أي درجة تسيطر الهواجس الأيديولوجية على تقييم الأحداث المعاصرة.
ردود الفعل كانت متوقعة من قبل بعض دول الشرق الأوسط، كالسعودية والإمارات ومصر، والتي قد أسست جبهة مشتركة للعمل فقط ضد تركيا، حيث ارتفعت أصواتهم لانتقاد خطوة افتتاح مسجد آيا صوفيا معترضين على ذلك.
يمكننا اختصار ردود الفعل المختلفة سواء التي صدرت عن أشخاص وكيانات وغير ذلك، بهذه الجمل: “هذه الخطوة التي اتخذتها تركيا من شأنها أن تقوّض مفهوم التسامح الإسلامي، وبتحويلها آيا صوفيا إلى مسجد أهانت المسيحيين ومشاعرهم، وستؤدي هذه الخطوة إلى تأجيج الكراهية والمزيد من الحركات الراديكالية”. حينما يقرأ شخص ما هذه التعليقات يظن أن آيا صوفيا كان لتوّه كنيسة تملؤها جموع المسيحيين للصلاة، حتى اُخذت منهم عنوة وحوّلت لمسجد. لا سيما وأن أصحاب ردود الفعل هذه، تعمدوا في الحقيقة إيصال رسالة من هذا النوع.
على سبيل المثال، التصريحات والعبارات التي استخدمها أحد أبرز الأسماء في الأزهر الذي يعتبر من أهم المؤسسات الدينية في مصر والعالم الإسلامي، عباس شومان، حيث قال بأنّ “فتح آيا صوفيا للعبادة يتعارض مع تعاليم الإسلام. يُظهر الإسلام احترامه لأماكن عبادة الأديان الأخرى، ولا يجوز في الإسلام تحويل كنيسة إلى مسجد، كما لا يجوز تحويل مسجد إلى كنيسة كذلك”.
إن الثلاثي “السعودية والإمارات ومصر”، قد وجدوا انتقاد قرار افتتاح آيا صوفيا للعبادة فرصة لانتقاد تركيا، لأن ذلك يتسق مع مهامهم في الشرق الأوسط والعالم العربي تحت غطاء “مكافحة الإسلام السياسي”، أما تدمير المساجد أو حرقها في أماكن مختلفة حول العالم، أو الانتهاكات التي يقوم بها أسيادهم كالولايات المتحدة وإسرائيل؛ فلا يعبؤون لها ولا يكترثون.
كذلك الأمر التصريحات الرومانسية للبابا فرنسيس الذي يعتبر الزعيم الروحي لمسيحيّي العالم، والتي قال فيها “البحر يأخذ بي إلى إسطنبول، أفكر في آيا صوفيا وأشعر بالألم”، فإنها تحتوي على سخرية أو كوميديا سوداء تُضحك حتى أولئك الذين لا يعلمون سوى القليل من التاريخ. إنه يشعر بالألم وكأنه لا يعلم أن المؤسسة الدينية التي يترأسها الآن كانت وراء احتلال القسطنطينية عام 1204 (قبل فتح القسطنطينية على يد الفاتح عام 1453) بأسراب من الصليبيين، وتخريبها وحرقها وتقتيل أهاليها ونهب آيا صوفيا آنذاك.. أو كأنه لا يعلم أن المؤسسة الدينية هذه ذاتها أبادت المسلمين وميراثهم وتراثهم سواء في الأندلس أو البلقان.
أما أولئك الذين يقولون بأن المسلمين عندما فتحوا القدس عام 638 ميلادية في عهد سيدنا عمر، فإنه أبقى كنيسة القيامة على حالها وأعطى أمانًا بذلك، لا سيما وأن كنيسة القيامة تعتبر من أهم معابد المسيحيين، وأنه كان على السلطان محمد الفاتح أن يفعل الشيء ذاته مع آيا صوفيا بإسطنبول عند فتحها؛ فينبغي الرد على هؤلاء بشكل منفصل:
لقد غاب عن خبراء التاريخ الإسلامي هؤلاء، الذين تخرجوا من مواقع التواصل الاجتماعي، أن القدس إنما تم تسليمها للمسلمين سِلمًا، أما إسطنبول فقد تم فتحها بعد حرب وحصار. وبالتالي، وفقًا لقانون الحرب في الإسلام، تختلف المعاملة وفقًا لاختلاف الحال؛ ما يعني أن الفاتح عقب فتحه إسطنبول قام بتطبيق قانون يقره الدين الإسلامي، ولكن مع ذلك لا نملك من الأمر شيئًا لإقناع الموتورين أصحاب الأحكام المسبقة النابعة عن كره دفين.
لم تكن بالطبع جميع ردود الفعل على إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، سلبية. هناك أيضًا التهاني والتبريكات جاءت من أماكن مختلفة حول العالم الإسلامي، ولعل أبرز تلك التهاني وأكثرها إثارة، هو تصريح رسمي صادر عن مفتي سلطة عُمان، أحمد خليل، حيث هنّا الرئيس أردوغان والشعب التركي، والعالم الإسلامي كذلك الأمر بقرار إعادة افتتاح مسجد آيا صوفيا. وإنه من المهم واللافت للغاية أن تقوم أعلى سلطة دينية في بلد مثل عُمان المعروف عنه حياده في القضايا الإقليمية، بتصريحات تشيد بتركيا وتعارض في الوقت ذاته سياسة دول بارزة كالسعودية ومن على شاكلتها.
وبمناسبة افتتاح آيا صوفيا للعبادة، دعوني أن أذكّر مرة أخرى بأن هذا المعبد الذي اكتسب وزنًا وقيمة على مدى التاريخ وتعدد الحضارات، يحمل رمزًا سياسيًّا في الوقت ذاته.
.