لا يهمني أن تشتري سيارة أو تستقل المواصلات العامة، فأنا لست بائع سيارات، أنا مهتم بالحديث عن مميزات السيارات وعيوبها، ولهذا فإن الجانب المعرفي والثقافي هو ما يهمني، ويهم أصحاب السيارات، ويهم من لا يشترون السيارات لأسباب مالية أو بيئية.
هذا المدخل يكفي لتناول قضية “آيا صوفيا” بعيدا عن دعم أو رفض قرار إعادة المبنى أو أجزاء منه إلى مسجد. فقد ظهر الانقسام، ودافع من دافع، وهاجم من هاجم، لكن الحجج التي ساقها الفريقان ظلت على السطح وظلت في حدود المبنى، وظلت في حدود الاستقطاب الديني، أو التعصب السياسي، أو النفسي. لكن المشكلة أكبر وأشمل من آيا صوفيا، بل هي المشكلة الأكبر والأخطر في العالم كله هذه الأيام ولسنوات مقبلة.
كيف؟
هذا ما أرغب في السؤال عنه، ليس بغرض الوصول إلى إجابة واحدة قاطعة، بالعكس، أنا أعلم جيدا أن الإجابات القاطعة لن تتحقق في الحياة، لكن المطلوب أن نتمكن من تحصيل إجابات متنوعة (ربما تكون نفس إجابتك القديمة)، لكنها بعد النقاش ستتميز بمتانة أضمن وقناعة أفضل وبفهم أوسع، أيضا بنزاهة أخلاقية تضمن عدم الإضرار بالنفس وبالغير. فليس منطقيا أن ينطلق شخص في دفاعه عن قرار بحجة الدين، ثم يكتشف أنه يضر الدين، وليس من المنطقي أن ينطلق شخص في دعمه للقرار بحجة السياسة والسيادة ثم يكتشف أنه يضر بالسياسة وبالسيادة، ومعها السياحة والعمارة والهوية..
(2)
أحب ضرب الأمثلة بكرة القدم، لأنها بمثابة ديانة وضعية معاصرة يلتزم بقوانيها أكبر عدد من البشر في أنحاء الأرض، بأقل درجة من الخلاف على القواعد. فقوانين فيفا صارت موقرة ومحل اتفاق أكثر من كل قوانين الأرض، إذ يلتزم الجميع بالقواعد تحت سيطرة حكم يحدد الصحيح والخطأ في اللعبة، بأقل مساحة من اعتراض اللاعبين.
لكن هذا لا يعني المثالية في الأداء، فقد يكون من المفيد لفريق ما أن يرتكب أحد المدافعين خطأ متعمدا لمنع المنافس من إحراز هدف، وهكذا تدخل “الأخطاء التكتيكية” إلى اللعبة كضرورة من غير أن يعترف بها القانون إلا كأخطاء يتم الحساب عليها في فصل العقوبات. وبالتالي فإن اضطرار اللاعب لارتكاب “خطأ تكتكيكي” يعبر إما عن فساده وعدم تدريبه، وإما عن مهارته وتوفيقه في اتخاذ القرار. بمعنى بسيط: هل يفيد الخطأ فريقه أم يضره؟ ولا يمكن إغفال النظرة الأخلاقية والجماهيرية للاعب الذي يرتكب الأخطاء المتعمدة لضمان فوز فريقه، أو على الأقل عدم خسارته.
المقصود من هذا المثال توضيح الفارق بين “القواعد المجردة” والتي لا يجب الخلاف عليها، وبين “الأداء” في الملعب بسخونته وحماسه ونسبة الأخطاء الطبيعية فيه، وهو الفارق بين “المبادئ” و”السياسة” في قرار آيا صوفيا، لأن المبدأ يتعلق باحترام عقائد ومقدسات الآخرين بصرف النظر عن أفعالهم. فليس من حقك أن تضرب اللاعب في الملعب لمجرد أنه ضربك قبلها، وإلا أفسدنا قواعد اللعبة، ويلزم طرد المفسدين، لكن الخطأ يظل مفهوما ومطلوبا في كل لعبة، باعتباره ضرورات احتكاك ورجولة في الأداء.
(3)
الانغماس في قصية لذاتها بمعزل عن العالم كله، يضع المنغمس في تناقضات غير أخلاقية وغير عقلية في كثير من الأحيان، ولهذا أحببت تناول القضية في إطارها الأوسع، لنعرف مدى نزاهة موقف الرافض أو الداعم لقرار آيا صوفيا، بالقياس إلى أحداث شبيهة وإن اختلفت العناوين.
ففي مصر يمكن القياس على أزمة تمثال دليسبس، وفي أمريكا يمكن القياس على ثورة تحطيم رموز العبودية وتماثيل شخصيات مثل كولومبس وجيفرسون دافيز، وفي بريطانيا تحطيم تمثال تاجر العبيد إدوار كولستون وإغراقه في النهر؛ كمظهر من مظاهر الاحتجاج الرمزي على العنصرية بعد خنق الشرطي الأبيض للمواطن الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد. وانقسم المتظاهرون أنفسهم على رمزيات أخرى كتمثال تشرشل.
وهذا الهجوم على الرمزيات سمة بدائية لازمت البشر في مراحل “عبادة الطوطم”، واستمرت في كل عصر حتى رأينا ذلك بأعيننا في تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان، وتماثيل قادة عرب مثل صدام حسين وحافظ الأسد، أو حرق مقر الحزب الحاكم في مصر أثناء ثورة يناير، ثم حرق مقار جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة نتيجة خلاف سياسي؛ شاع فيه الحديث عن خطر تغيير هوية مصر، وبالتالي ضرورة حرق هوية المخالفين الذين يهددون الهوية الأصلية التي تدعمها سلطة قائمة أو جموع من الناس!
(4)
كان جوانج نائما عندما رأى نفسه فراشة تطير في الهواء، وبين النوم واليقظة سمع صوتاً يناديه: جوانج.. جوانج..
انتبه من غفلته وأخذ يفكر: من أكون؟
هل أنا فراشة حلمت أنها جوانج؟
أم جوانج الذي يحلم بأنه فراشة؟
سؤال جوانج لم يكن عن “الهوية”، بل عن “الكينونة”، لأن سؤال الهوية لا يسأله الفرد أو المجتمع لنفسه، بل يقدمه للآخر، لذلك نختار الأسماء ونختار الصور ونجري عليها الرتوش والتعديلات لتصبح أجمل، حتى لو خالفت الواقع قليلا، لكنها يجب أن تظل على علاقة بالأصل حتى لا تضيع وتفقد صلة الانتساب لصاحبها.
ويمكن أن تفهم اتجاه “الهوية لمن؟” من كلمة “هو”، يعني أنها وسيلة تمييز واختلاف تسهل للآخر التعرف على ملامحنا في صورة تجلب الفخر والهيبة، ولا تجلب العار أو الكراهية أو الضياع الباهت بالتشابه مع “هُو آخر”.
وحتى لا أقترب من “خناقة آيا صوفيا”، سأطرح عددا من الملاحظات والأسئلة التي ترتبط بموضوع الهوية لتساعدنا في تفكير أوسع، ولنبدأ الأسئلة:
كيف كان مايكل جاكسون ينظر إلى اسمه وصورته بعد تبديل ملامحه ولغة أجداده ولون جلده كأفريقي؟
وكيف شعرت ريا أبو راشد عندما اغترب الناس عن صورتها القديمة، وأنكروا صورتها الجديدة؟
ولماذا لا يعرف الناس جاكلين كينيدي باسمها الأصلي “جاكلين بوفيرو”، أو باسم زوجها التالي لتصبح “جاكلين أوناسيس”؟
وما معنى اسم أردوغان في القرآن؟ وهل يجد صعوبة في نطق اسمه العربي (رجب) فينطقه بلكنة تتعارض مع هويته الأصلية؟
وكيف يمكن لرجل اسمه أردوغان أن يمثل الإسلام، بينما رجل اسمه مصطفى كمال يمثل “عدو الإسلام”؟!!..
موضوع الاسم وعلاقته بالهوية يضعنا في حيرة كبيرة، لأننا أضفنا للأسماء رمزيات دينية، وصارت لها دلالاتها، لذلك فإن التناقضات تضعنا في ارتباك وتعارض مع الهوية. فكيف يستقيم أن يتحول رجل اسمه “آبي أحمد” إلى مسيحي، وتتخلص دولة إسلامية من اسم عثمان لتصبح تركيا؟ كما تتخلص من الحرف المكتوب به الكتاب الكريم، وتسعى للالتحاق بهوية معادية للإسلام في أوروبا “العنصرية”؟!!..
كيف يمكننا تقييم سلوك رجل يريد أن يحتفظ بالتفاحة وهو يقضمها بتلذذ أمام أعيننا طوال الوقت؟
(5)
أعود إلى كرة القدم وأتوقف أمام “نطحة زيدان” للاعب الإيطالي الخبيث الذي تجاوز في شرف شقيقة زيدان، فغضب وأخرجه الغضب عن القواعد، كما أخرجه مطرودا من الميدان، فخسرت بلاده بسبب “رد الفعل” والحيلة خسيسة الأخلاق التي كسر فيها المسافة الآمنة بين “القاعدة” و”الأداء”. فلو امتص زيدان الإهانة، وضرب اللاعب بشكل طبيعي أثناء احتكاك في مجرى اللاعب، فلم يكن ليعاقب بأكثر من “فاول” دون تسجيل “النطحة” كحدث كبير ومخجل.
وهنا يحضرني السؤال: كيف نظر كل واحد فينا إلى قرار “آيا صوفيا”؟ هل يتماشى مع “القواعد الأصيلة لدينك وللعالم”؟ أم أنه “رد فعل” مشابه في القوة ومعاكس في الاتجاه لعنصرية الغرب المسيحي ضد المسلمين، فلا بد أن نرد العنصرية بالعنصرية؟ أم أنك تعترف بالقواعد والمبادئ وتنظر للقرار باعتباره “فاول تكتيكي متعمد” لتعطيل هجمة ضدك وإنقاذ مرماك من الخطر؟
الإجابة على هذه الأسئلة تفتح أمامنا الباب لأسئلة أخرى أكثر موضوعية عن خلط الدين بالسياسة، وخلط التاريخ بالواقع، وهاجس البحث عن هوية نرميها بأيدينا كلما حصلنا عليها.
إذ يبدو سؤال الهوية باهتاً ومفتعلا إذا قورن بحالة التوتر الديني والتاريخي بين تركيا وأوروبا، خاصة الحساسيات المتزايدة مع اليونان كمثال؛ لأن الهوية التركية لم تنشغل بوجود مسلة مصرية قديمة تقف على مسافة خطوات، في تناقض معماري وديني مع مآذن الجامع الأزرق ومآذن وأبراج أيا صوفيا، لكن العقل الرسمي التركي، والعقل الشعبي الإسلامي لم ينشغل بهذا الصدام في الهويات. بل ولم يعبر أحد عن وجود صدام أصلا مع رمز حضاري وديني أبعد كثيرا من دين سماوي قريب العهد وقريب الجغرافيا، بينما اهتم العقل الرسمي بتغيير اسم شارع على مقربة من سفارة الإمارات، نتيجة وجود صدام آخر (غير ديني)؛ لكنه صدام في تصورات الذات وفي الإحساس بتفوق الهوية التركية سياسيا وتاريخيا على بلدان كانت تحكمها.
(6)
إحساس التفوق لأنك تحكم (أو كنت تحكم) أحد روافدة تغذية الهوية بالأمجاد التاريخية، وأحيانا كثيرة بالتعصب في النظر للآخر، كما أنه مؤشر أخلاقي أكثر منه سياسي؛ لأن تقاليد العصور الوسطى تؤكد أن فتح البلدان بالقوة يجعلها ملكا خالصا لمن فتحها، ولما ظهرت قوانين جديدة في العالم الحديث، استقرت خرائط البلدان القديمة، ولم يعد بإمكان صدام حسين أن يبتلع الكويت لأنها كانت تابعة للعراق في زمن قديم.
وبالتالي، يجب أن نعرف الخط الفاصل بين قواعد الأزمنة ونحكم على كل عصر بقواعده، بينما المبادئ تخترق العصور، لأنها ليست متغيرة، وبالتالي فإن أحداً في تركيا الحديثة ليس مطالبا بإظهار صك بيع وشراء للمدينة كلها بمبانيها ومن فيها، لأنها آلت إلى حكم جديد، لكن بعض الرمزيات تظل عصية على الهضم وعصية على التسامح، وتظل جروحا غائرة يتطلب التعامل معها بحساسية، تعتمد على احترام المشاعر أكثر من إثارة العداء.
لكن آيا صوفيا استمرت رمزية خاضعة لقوانين العصور الوسطى، فعندما استولى عليها محمد الفاتح استخدمها للصلاة، وعندما شاخ “الرجل المريض” وتغلبت القوة الأوروبية الحديثة، تم تعطيل الصلاة في آيا صوفيا ترضية للمنتصر، وبدأت تركيا تعيد صياغة هويتها على أساس الاقتراب من أوروبا والابتعاد عن التركة العثمانية التي تناهبتها ذئاب الاستعمار الجديد.
وبالتالي، فإن قرار المحكمة التركية (المدعوم برغبة رئاسية رسمية) يفتح باب الأسئلة الشاملة والعميقة عن الهوية التركية خلال السنوات المقبلة، وعن موقف السلطة التركية المنتظر من استمرار مطلب التحاقها بالاتحاد الأوروبي ، واستمرار عضويتها في “الناتو” (باعتباره قوة غربية بالمفهوم العسكري وقوة مسيحية صليبية بالمفهوم الديني)، وهو ما يبعدها عن تحالفات إقليمية معاكسة، إذا كانت تفكر في إعادة التقارب مع المحيط العربي والإسلامي.
(7)
قبل أن أنسى، فإن اسم “آيا صوفيا” بلا ضرورة لترجمته، يعني “آية الحكمة”، وهو تعبير مؤسسي شاع في الدول القديمة والعصور الوسطى. ولعل دار الحكمة في بغداد، ودار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في العصر الفاطمي؛ من النماذج التي تقرب لنا المفهوم المزدوج لهذه المؤسسات كمستودعات تفكير وعقائد تمثل العصر واتجاهات الحكم.
حتى لا أطيل أكثر من ذلك، أحب أن أوضح أن سؤال الهوية هو سؤال آدم الذي علّمه الله الأسماء كلها، كما أنه السؤال الأكبر للعالم في السنوات المقبلة، بعد عقود من الهيولة ومتاهة ما بعد الحداثة التي وصفوها بمرحلة “نسيان آدم للأسماء”. ونظرا لأهمية السؤال في استعادة قيمة الإنسانية ومرتظاتها، فإن الإجابة عليه لا يصح أن تتم بالاقتطاع والانتقاء والقص واللصق.
فالهوية مفهوم حي متنام متجانس متكامل، أما هذا الارتباك فليس أكثر من مظهر للقلق من غياب الهوية والرغبة في البحث عنها والوصول إليها، وهذا لن يتم إلا بطرح الأسئلة الصحيحة، والتفكير في إجابة ناجحة تفيد ولا تعيد إنتاج المشاكل العالقة في تاريخنا منذ قرون.
(8)
الحكمة التي أريد أن أختتم بها هي قول الحكيم جوانج: إنك لا تستطيع أن ترى صورتك (هويتك) في المياه الجارية، لكن يمكنك أن تراها بشكل أفضل عندما تهدأ المياه في بحيرة صافية، وبالتالي فإن الهوية تحتاج إلى استقرار ومعايير ثبات لا تتوفر في هذه المرحلة القلقة، لكن سيظل هاجس البحث عن الهوية والاستعداد لها مطلوبا بشدة، والمطلوب أكثر أن نجتهد في تحسين الأصل لكي نرى الصورة جميلة، ولا تصدمنا أي صورة مشوهة، لا نرغب في رؤية أنفسنا عليها بعد أن تهدأ المياه..
والله المعين