عام 1926 تقدم اتحاد فرق موسيقى الجاز الأمريكي بطلب عبر السفارة الأمريكية بأنقرة إلى بلدية إسطنبول وإلى الحكومة التركية لتخصيص مسجد آيا صوفيا لهم لإقامة حفلاتهم وإقامة قاعة للرقص. وفي 15 ديسمبر/ كانون أول نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الخبر بعنوان “مقترح لتحويل مسجد آيا صوفيا الشهير بإسطنبول إلى قاعة للرقص”
أصدر مجلس الدولة التركي قراره بإلغاء قرار مجلس الوزراء رقم 7/1589 بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين ثاني 1934 الذي نص على تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف، في خطوة كان المجتمع التركي يترقبها.
وعقدت المحكمة جلستها في 2 يوليو/ تموز الجاري للاستماع إلى الأطراف المعنية بالقضية المرفوعة من قبل “جمعية وقف الآثار التاريخية والبيئة”.
وعقب الانتهاء من النظر في القضية، قررت الدائرة العاشرة مجلس الدولة، إلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934 بتحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف وعقب صدور القرار مباشرة وقع الرئيس رجب طيب أردوغان مرسوماً رئاسياً بنقل إدارة “آيا صوفيا” من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية، وفتحه للعبادة.
واستندت المحكمة في قراراها إلى أن ملكية “آيا صوفيا” تعود إلى وقف السلطان محمد الفاتح، ومسجل في سند الملكية بصفة مسجد وتم وقفه لخدمة المجتمع بدون مقابل ولا يجوز قانوناً تغيير وضعيته دون إذن من المالك أو الواقف.
وجاء بحيثيات القرار “أن الحقوق والممتلكات غير المنقولة التابعة للوقف والخاضعة للحماية منذ زمن طويل لا تشكل عائقا أمام استخدامها من قِبل المجتمع للغرض الذي قُدمت له”.
وأنه تم التوصل إلى نتيجة بأنه لا يمكن من الناحية القانونية استخدام “آيا صوفيا” بغير صفة مسجد الواردة في وثيقة الوقف أو تخصيصها لأغراض أخرى.
وبقرار اليوم يسدل القضاء الستار على مرحلة طويلة من السجال استمرت لأعوام أمام القضاء.
الخلفية التاريخية:
بنيت كنيسة آيا صوفيا (الحكمة المقدسة) أول مرة عام 360 م على يد الإمبراطور قسطنطين وكانت وقتها مبنية من الخشب. احترقت الكنيسة بالكامل في أعمال شغب اندلعت عام 404. ثم أعاد الإمبراطور تيودوروس بنائها عام 415 إلا أنها احترقت مجدداً عام 532 وأعاد الإمبراطور جستنيان بناءها من الحجر وافتتحت للعبادة عام 537 وظلت أهم رموز العالم المسيحي حتى فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الثاني (الفاتح) في 29 مايو/ أيار 1453. وتم تحويلها إلى مسجد وأقيمت بها أول صلاة جمعة بعد الفتح في الأول من يونيو/ حزيران 1453.
وفي عهد الجمهورية التركية، وبالتحديد عام 1934 أصدر مجلس الوزراء القرار رقم 7/ 1589 بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين ثاني الذي ينص على تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف وحظر إقامة الشعائر الدينية به.
محاولات لتغير وضعية آيا صوفيا ومسجد السلطان أحمد في عهد الحزب الواحد:
هناك ادعاءات بتزوير توقيع أتاتورك على قرار الحكومة رقم 1589 بتاريخ 24 نوفمبر بشأن تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف، وأن القرار لم يكن بعلم أتاتورك أو بإرادته. وهي ادعاءات تفتقر إلى المنطقية إذ أنه لا يعقل أن يُتخذ قرار مهم مثل هذا ويُنفذ أيضاً دون علم رئيس الجمهورية، كما أن الأحداث والوقائع التاريخية تشير إلى أنه كان هناك توجه من الحكومة أو على الأقل نية لتغير وضعية مسجد آيا صوفيا وبالفعل كانت هناك محاولات عديدة لم تقتصر فقط على تغير وضعية “آيا صوفيا” بل طالت أيضاً مسجد السلطان أحمد المعروف بالجامع الأزرق.
في كتابها “امرأة إنجليزية في أنقرة” المنشور عام 1923 تذكر الكاتبة والصحفية الإنجليزية غراس إليسون أن مؤسس الجمهورية التركية مصطفى أفصح لها خلال إحدى لقاءاتهما عام 1922عن إمكانية تحويل آيا صوفيا إلى متحف أو إغلاقه تماماً إذا كان بقاؤه مسجداً سيزعج العالم المسيحي “الكاثوليكي”.
وإليسون غراس هي صحفية وكاتبة إنجليزية قضت أوقات طويلة في تركيا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وأصدرت كتباً عن المرأة في الدولة العثمانية. وفي عام 1922 عادت إلى تركيا مجدداً وكانت تدافع عن تركيا في الصحف الأوروبية والتقت مصطفى كمال أتاتورك عدة مرات.
وتذكر غراس في كتابها إنها التقت البابا بيوس الحادي عشر في الفاتيكان عقب النصر الذي حققته تركيا في 30 أغسطس/ آب 1922 وعقب اللقاء عادت إلى تركيا والتقت مصطفى كمال أتاتورك وسألته ما إذا كان سيقوم بلفتة طيبة للعالم المسيحي مثلاً تسليم “آيا صوفيا” إلى البابا بصفته الزعيم الروحي للعالم المسيحي. وتقول غراس في كتابها إن أتاتورك أجابها قائلاً “إن آيا صوفيا جزء من تقاليدنا الإسلامية، وإن تسليمها للبابا كان سيصبح ممكنا لو أن العالم المسيحي كان موحداً إلا أن الكنيسة المسيحية منقسمة جداً وتسليمها لطائفة مسيحية معينة يمكن أن يتسبب في صراعات ونزاعات بين الطوائف المسيحية المختلفة في العالم داخل الأراضي لتركية. إلا أنه إذا كان إبقاؤنا على آيا صوفيا مسجداً سيؤلم فعلا الكنيسة الكاثوليكية فيمكننا تحويله لمتحف أو إغلاقه للأبد.”
في أغسطس عام 1926 اجتمعت لجنة الفنون الجميلة برئاسة ناظر المعارف آنذاك مصطفى نجاتي أوغورال وقررت اتخاذ عدة قرارات بخصوص الثقافة والتعليم في البلاد ومن هذه القرارات قرار إلغاء دروس الموسيقى التقليدية التركية بالمدارس. كما قدمت اللجنة مقترح لتحويل مسجد السلطان أحمد إلى معرض فني لعرض لوحات الرسامين نامق إسماعيل وتشاللي إبراهيم اللذين كانا أعضاء باللجنة. واقترح الرسامان إحداث ثقوب في قبة مسجد السلطان أحمد لتحسين الإضاءة فوق اللوحات التي سيتم عرضها. وكان ناظر المعارف على وشك الموافقة على المقترح لولا معارضة شديدة من المهندس “أحمد كمال الدين” أحد أهم المهندسين الأتراك في القرن العشرين.
وقد نشرت هذه الواقعة بالتفصيل في مقال بعنوان “أتاتورك والموسيقى” في صحيفة “جمهورية” ونشر في 11نوفمبر/ تشرين ثاني 1963 وكتبه الموسيقار التركي جمال رشيد ري الذي كان أحد أعضاء اللجنة.
عام 1926 تقدم اتحاد فرق موسيقى الجاز الأمريكي بطلب عبر السفارة الأمريكية بأنقرة إلى بلدية إسطنبول وإلى الحكومة التركية لتخصيص مسجد آيا صوفيا لهم لإقامة حفلاتهم وإقامة قاعة للرقص. وفي 15 ديسمبر/ كانون أول نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الخبر بعنوان “مقترح لتحويل مسجد آيا صوفيا الشهير بإسطنبول إلى قاعة للرقص”. وذكر الخبر أن مجموعة من رجال الأعمال في إسطنبول يرون أن المكان لا يصلح مكاناً للعبادة ومن الأفضل تحويله إلى شيء آخر وأن الطلب تم رفعه إلى السلطات التركية لكن يبدو أن المقترح لم يلق تأييداً كبيرا بعد.
عام 1945 تقدم منظم معارض سويسري يُدعى آبي كارلو برادا، بطلب إلى رئيس الجمهورية آنذاك عصمت إينونو، يطالب فيه بتخصيص مسجد آيا صوفيا لإقامة القداس الكاثوليكي في مقابل أن يتكفل برادا بكل مصاريف المسجد وبتكاليف أي إصلاحات بداخله.
22 ديسمبر 1945 أرسل السكرتير العام لرئاسة الجمهورية خطاباً إلى رئاسة الوزراء لإعلامهم بالأمر للنظر فيه. إنما لا توجد أي وثائق رسمية تتحدث عن رد من الحكومة التركية على الخطاب.
في مقابل كل تلك المحاولات والمطالبات الأجنبية والرسمية بتغير وضعية آيا صوفيا، كانت هناك مطالبات شعبية ومحاولات أمام القضاء لإعادته مسجداً بعد تحويله لمتحف، منذ 1934 إلى أن تم حسم القضية تماماً بقرار مجلس الدولة التركي الأخير ثم قرار الرئيس أردوغان بفتحه للعبادة.
ومن المقرر أن تؤدى أول صلاة جمعة بمسجد آيا صوفيا في 24 يوليو الجاري.
.
بواسطة / عامر سليمان