يقول المؤرخ المصري محمد حرب في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة”: “إذا كان بابنجر يقول إن “سنان” هو مايكل أنجلو الأتراك، فإن هـ. كلوك العالم الألماني وأستاذ تاريخ العمارة في جامعة فيينا يقول إن سنان يتفوق فنيًا على مايكل أنجلو صاحب أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية”.
بخلاف ما يصوره خصوم التاريخ العثماني من أن هذه الدولة كانت دولة عسكرية لا تعرف إلا الغزو بمعزل عن ركب الحضارة، فقد برز في الحضارة العثمانية معماريون كُثُر، مثل المعماري خير الدين، وكمال الدين، ويعقوب شاه، وعجم علي، جميعهم كانوا نتاج الثقافة العثمانية.
لكن أكثرهم براعة وأقواهم أثرًا على الإطلاق كان المعماري “سنان”، والذي قال عنه المستشرق الروسي فاسيلي بارتولد في كتابه الحضارة الإسلامية: “الأعمال التي قام بها المعماري سنان لم تكن أقل من الناحية الفنية من الأعمال المعمارية الأوروبية في عصر النهضة”.
فمن هو المعماري سنان؟
عام 1490م ولد سنان بن عبد المنان في قرية “آغرناص” بالأناضول، وكان من المسيحيين الذين جندتهم الدولة والمعروفين باسم “الدوشيرمه”، وأسلم وهو في الثالثة والعشرين من عمره.
والتحق بمدرسة “عجمي أوغلانر” الابتدائية العسكرية، وتعلم فيها القراءة والكتابة والفنون التطبيقية تحت إشراف المتخصصين العسكريين، وتخصص سنان في قسم النجارة، ثم انضم إلى الانكشارية أثناء استعداد السلطان سليم الأول لشن حملة عسكرية على الصفويين.
آثار العمارة التي شاهدها وتأملها سنان في الأناضول ولدى قدومه إلى إسطنبول والاطلاع على الأعمال المعمارية للأمم الأخرى كالبيزنطيين والسلاجقة، لم تكن هي العامل الوحيد الذي شكل شخصيته كمعماري وأثْرت فيه حب هذا الفن والإبداع فيه، بل كان العامل الأكبر الذي كوّن شخصيته الفنية هو انخراطه في الحياة العسكرية والغزوات شرقا وغربا، فقد أتاحت له مشاهدات عظيمة كثيرة ثرية لفنون العمارة.
فاشتراكه في قتال الصفويين في معركة جالديران 1514م، قد مكنه من التعرف على الطراز المعماري الإيراني عندما دخل مع الجيش العثماني مدينة تبريز، وتعرف على الفن المعماري العربي عندما رافق الجيش في دخول الشام، ولما دخل السلطان سليم الأول مصر عام 1517م، كان سنان ضمن الجيش العثماني، فأتاح له ذلك مطالعة آثار الحضارة الفرعونية والمملوكية.
ومثّل تولي السلطان سليمان القانوني زمام الأمور خلفا لوالده، نقطة فارقة في الحياة المعمارية لسنان، والذي أصبح انكشاريا فنيًا، وذلك لأن عصر سليمان القانوني هو عصر عالمية الدولة العثمانية التي بسطت سيطرتها في أوروبا، وكان سنان ضمن الحملات التي جابت هذه البقاع الأوروبية.
تعرف سنان على الطراز المعماري اليوناني من خلال مشاهداته الفنية عندما دخل العثمانيون “رودس”، وتعرف على فنون المجر المعمارية عندما دخل مع جيشه “بودابست”، كما تعرف سنان على الطراز المعماري في إيطاليا عندما ذهب إليها مرافقا أمير البحار الشهير “خير الدين بربروس” الذي انطلق يجوب السواحل الإيطالية لتأديب القائد البحري الأوروبي الشهير “أندريه دوريا”.
كما طالع سنان فنون العمارة العراقية عندما كان ضمن الجيش العثماني الذي قاده السلطان سليمان القانوني إبان حملته على بغداد.
ويعتبر العام 1538م، نقطة تحول كبيرة في حياة سنان، حيث ذاع صيته وتألق اسمه، يقول المؤرخ التركي أحمد آق كوندز في كتابه “الدولة العثمانية المجهولة” عن المعماري سنان: “عندما استطاع في أثناء الحملة على “قارا بوغدان” عام 1538م، بناء جسر على نهر “بروت” في 13 يوما فقط، نال تقدير وثناء السلطان”.
وبعد وفاة “عجم علي” كبير المعماريين في الدولة العثمانية، رشّح الصدر الأعظم لطفي باشا، المعماري سنان لكي يحل محله، فتولى المنصب، وآل إليه الإشراف العام على كل أعمال البناء في الدولة العثمانية، وأصبح مسؤولا عن الأعمال المعمارية في إسطنبول، من مدارس وقصور ومطاعم خيرية وحمامات وسُبل ماء، وشق القنوان ورصف الطرق.
وكلفه السلطان سليمان بمسؤولية إمداد شعب إسطنبول بالماء، فاستخدم سنان خبرته في الهندسة ببناء عين ماء في كل حي، وبذلك قد وفّر الكلفة الكبيرة لأجرة حمل الماء والعاملين عليه.
في مخطوطة تذكرة الأبنية التي أملاها سنان على صديقه ساعي مصطفى جلبي، ظهر لسنان 441 عملا معماريا موزعة على أرجاء الدولة العثمانية، ففي إسطنبول على سبيل المثال: جامع صقوللو محمد باشا، وجامع السليمانية، وفي صوفيا عاصمة بلغاريا بنى جامع محمد باشا البوسنوي، وفي القرم بنى جامع تاتار خان.
وفي البلاد العربية، بنى سنان المنشآت الخيرية والمساجد، ففي مكة قام بترميم قباب الحرم المكي وبنى مطعما خيريا باسم “خاصكي سلطان”، وبنى فيها مدرسة وحماما باسم السلطان سليمان، ودارا للقراء.
وبنى في المدينة المنورة مطعما خيريا كذلك باسم “خاصكي سلطان”، وبنى في مدينة حلب جامع خسرو باشا، وقصرا وحماما وتكيّة، وبنى في دمشق مطعم السلطان سليمان الخيري، وأنشأ فيها جامعا بنفس الاسم.
وأما القدس فبنى فيها جامعا ومدرسة ومطعما خيريا، وفي البصرة أنشأ جامعا.
وإضافة إلى هذه الأعمال، أنشأ سنان العديد من المنشآت الخيرية والمدارس المحيطة بالجوامع والتي تعرف بالكليات، والعديد من السدود والحمامات، والجسور والكباري والطرق وسبل الماء.
ويعد جامع السليمانية في إسطنبول، أعظم الأعمال المعمارية التي بناها سنان في عام 1557م، واختار لهذا البناء ربوة تتحكم في الخليج الذهبي والبسفور، واستخدم فيها نظاما فريدا للقباب.
يقول البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو في كتابه “الدولة العثمانية تاريخ وحضارة”: “بلغت العمارة العثمانية ذروتها مع عبقرية المعماري سنان، فقد استخدم قبة مركزية تأخذ في الاتساع مع أنصاف القباب، نصفين أو ثلاثة أو أربعة، وجرب مخططات متعددة لتشييد أكبر القباب وأعلاها في التاريخ، فقد كان سنان معمارا إمبراطوريا بالمعنى الحقيقي”.
وجامع السليمانية يقع ضمن الكلية التي تشمل الجامع، وتشمل دار الطب، والمدرسة الأولى، والمدرسة الثانية، وكتّاب الصبيان، والمدرسة الثالثة، والمدرسة الرابعة، ومدرسة الملازمين، ودار الحديث، وحمام السليمانية، ومشفى، ودارا للضيافة، ودارا للطبخ، ودار القراء لتدريس القرآن الكريم بجميع قراءاته، وضريح السلطان، وضريح حرم السلطان، وضريح المعماري سنان، وسبيل ماء.
كما يعتبر جامع السليمية الذي بناه سنان في أدرنة، أكبر شاهد على إبداعاته الفنية وروحه المثابرة الغيورة على الأمة الإسلامية، فيتحدث هو عن دوافعه لبناء جامع السليمية بقبته الضخمة، فيقول: “إن المعمارين الآخرين يقولون: إننا متفوقون على المسلمين لأن عالم الإسلام يخلو من قبة عظيمة مثل قبة آيا صوفيا، وأن بناء مثل هذه القبة الضخمة في بلاد الإسلام أمر غاية في الصعوبة”.
وأكمل: “وكان لكلامهم هذا تأثيره المؤلم في قلب هذا العبد العاجز (يعني نفسه)، لذلك بذلتُ الهمة العالية في بناء هذا الجامع، وبعون الله، ثم بتشجيع من السلطان سليم خان، قمت بإظهار المقدرة، وأقمت قبة هذا الجامع أعلى من قبة آيا صوفيا بستة أذرع، وأعمق بأربعة أذرع”.
لقد كان لسنان مدرسة معمارية تخرج منها جهابذة وضعوا بصماتهم في الحضارة العثمانية، والإسلامية بصفة خاصة، فأحد تلامذته هو المعماري يوسف، والذي استدعاه ملك الهند بابر شاه، ليشيد أعمالا عظيمة في دلهي وأكرا، وأصبح منهجه المعماري أنموذجا يحتذى به، حيث أنشيء جامع إسكندر باشا في القاهرة (تم إزالته في عهد الخديوي إسماعيل) على نفس الطراز الذي أسسه سنان.
وفي عام 1588م، توفي سنان عن عمر يناهز المائة عام، مخلفا آثارا بارزة في الحضارة العثمانية الإسلامية، وبعد أن عاصر خمسة من سلاطين الدولة العثمانية، ملأ صفحات هذه الحقب بإنجازاته وإبداعاته المعمارية.
لم تكن هذه السطور سوى نبذة تعريفية تفتح الآفاق للبحث في سيرة هذا المعماري الجهبذ، أردنا منها تسليط الضوء على الجوانب الحضارية للدولة العثمانية التي تُتهم دائما بأنها لم تعرف سوى السيف والمدفع.
.
المصدر/ A.A