استغل أعداء تركيا إعادة فتح مسجد آيا صوفيا بعد أكثر من ثمانية عقود لتحريض المسيحيين ضدها، في محاولة لتحويل الحدث إلى صراع بين الأديان والمعتقدات، إلا أن المنصفين من رجال الدين المسيحيين لم يقعوا في هذا الفخ، بل عبروا عن فرحتهم بعودة العبادة إلى مسجد آيا صوفيا، وأطلقوا تصريحات تفشل خطة تأجيج الكراهية بين المسلمين والمسيحيين.
رئيس الهيئة الشعبية العالمية لعدالة وسلام القدس، الأب مانويل مسلم، كان أول هؤلاء، وأشار إلى أن رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان رفع قدر آيا صوفيا وكرامته من متحف إلى جامع يذكر فيه اسم الله، بعد أن كان متحفا تدوسه أقدام الأمم، لافتا إلى مساجد وكنائس جرى تحويلها إلى متاحف وحظائر ماشية وكنس يهودية وصالات للأفراح وملاه ليلية وزرائب حيوانات.
وبعد تصريحات الأب الفلسطيني هذه، نشر قبل يومين مقطع فيديو يتحدث فيه قس يوناني حول إعادة فتح مسجد آيا صوفيا. وقال القس إيفانجيلوس بابانيكولاو، في كلمة ألقاها، الأحد، في كنيسة أناليبسيوس بالقرب من العاصمة اليونانية أثينا، إن اليونانيين عاشوا خلال حكم الأتراك حرية دينية حقيقية، وأثنى على الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة التركية بعد إلغاء المحكمة الإدارية العليا قرار مجلس الوزراء بشأن تحويل آيا صوفيا إلى متحف، وأضاف قائلا: “لولا الأتراك الذين حموا آيا صوفيا، لما بقي هذا المبنى الكبير حتى يومنا الحالي”.
هذه الكلمات الصادقة التي صدرت عن قس يوناني لصالح إعادة فتح مسجد آيا صوفيا شهادة قيمة واعتراف بالحقيقة، إلا أن أكثر ما يلفت الانتباه فيها قوله إنه يفضل العمامة التركية على القبعة اللاتينية كما فضَّلها اليونانيون القدامى خلال الحكم العثماني. لأن هذه المقولة الشهيرة لم تأت من فراغ، بل تشير إلى حقائق تاريخية، والظلم الكبير الذي وقع على الطائفة الأرثوذكسية من قبل الكاثوليكيين.
القس إيفانجيلوس بابانيكولاو تحدث في كلمته عن إغلاق كنائس في عهد الأمير البافاري الكاثوليكي، أوتو الأول، الذي أعلن أول ملك لليونان عام 1832 بموجب اتفاقية لندن، وعن سرقة مقتنيات القديسين من الفضة، واستخدامها في دفع رواتب الموظفين لدى الحكومة. إلا أن الظلم الذي مارسته طائفة من المسيحيين على طائفة أخرى لدرجة أنه دفع أبناء الأخيرة إلى القول بأنهم يفضلون العمامة التركية على القبعة اللاتينية، لم يكن مقتصرا على ما قام به أوتو الأول، بل هناك أمثلة أخرى متعلقة بآيا صوفيا ذاته.
الصليبيون الذين خرجوا من أنحاء أوروبا في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، في طريقهم إلى القدس، نهبوا مدينة القسطنطينية وقتلوا العديد من سكانها. ويذكر المؤرخ الأمريكي المختص في التاريخ البيزنطي، سبروس فريوني، أن المشاركين في الحملة الصليبية الرابعة من الفرنسيين وغيرهم، دنَّسوا كنيسة آيا صوفيا، وحطموا الأيقونات الفضية المسيحية والكتب المقدسة، بل وأجلسوا على العرش البطريركي عاهرة، وهم يحتسون الخمر في أواني الكنيسة المقدسة.
العثمانيون، كما ذكر القس إيفانجيلوس بابانيكولاو، قاموا بحماية آيا صوفيا وترميمه، وحافظوا عليه ليبقى حتى اليوم. وكان بإمكانهم أن يتركوه دون عناية لينهار تلقائيا، ويصبح صورة في كتب التاريخ. ولم يكن يحق لأحد أن يلومهم في ظل اندثار آثار عدد كبير من المباني التاريخية حول العالم بسبب الإهمال.
لا يمكن أن ينكر منصف اهتمام تركيا بالآثار والمباني التاريخية وتراث كافة الحضارات التي شهدتها شبه جزيرة الأناضول ومدينة إسطنبول العريقة. وآخر مثال لذلك، افتتاح “دير سوميلا” التاريخي في مدينة طرابزون بعد ترميمه. وقال أردوغان، الثلاثاء، في كلمته التي ألقاها بمراسم الافتتاح عبر تقنية فيديو كونفرانس، إن الأتراك لو كانوا أمة تستهدف رموز المعتقدات الأخرى لما بقي “دير سوميلا” قائما بعد مرور خمسة قرون. كما اتصل بطريرك الروم الأرثوذكس بإسطنبول، بارثولوميوس، برئيس الجمهورية التركي ليعرب عن شكره له على ترميم الدير التاريخي وافتتاحه.
إعادة فتح آيا صوفيا قضية متعلقة بالسيادة، ووصية السلطان محمد الفاتح، واستعادة الهوية التركية المفقودة. وكثير من هؤلاء الذين يذرفون دموع التماسيح على آيا صوفيا ويسبون الدولة العثمانية، إما أنهم من أحفاد الصليبيين الذين نهبوا القسطنطينية ودنسوا قدسية آيا صوفيا، أو أنهم من الذين لو كان هذا المبنى التاريخي في بلادهم لما بقي منه حجر.