ها هو عيد الأضحى يصادفنا بعد مرور عيد الفطر قبله، وسط ما تمليه أو تحدده ظروف فيروس كورونا. إن “القربان” و”المسافة” في الواقع مفاهيم متعاكسة فيما بينها، حيث أن القربان هو مفهوم لا يقبل بوجود مسافة، كما أن المسافة بطبيعتها تعتبر عائقًا أمام القربان. والقربان باعتباره عيدًا أو مهرجانًا من حيث وظيفته الاجتماعية ومعناه اللغوي كذلك، يقضي على المسافة ويتجه نحو التقريب والوصل. وفي الحقيقة بصرف النظر عن هذه التجربة الاستثنائية التي نفهمها، فإن القربان لطالما كان قضية تستحق التفكير والتأمل.
القربان ظاهرة متعددة الأبعاد، وهناك الكثير مما يشير إلى ذلك؛ سواء مما قيل حولها، أو الدراسات والمناهج الأكاديمية المختلفة، وانعكاساتها في وسائل الإعلام، ونظريات المجموعات المهنية المختلفة، وتجارب وتصوّرات الطبقات المختلفة. وجميعها تخضع لنظرة مختلفة من الطبيب البيطري مثلًا عن الطبيب العادي أو محبّي الحيوانات، أو الجزّار، أو دارس الشريعة، وبين الفقير والغني كذلك.
وربما القربان كنوع من العمل الذي يتمتع بمراسم خاصة، يعكس جوانب مختلفة لكل دور قائم فيها ممن يشتركون في مراسم هذا الحدث. أوَليست الظاهرة بطبيعتها تعبّر عن مثل هذه الحالة؟ لقد قال القدماء عن الظاهرة بأنها “ظاهرية”؛ وهي كظاهرية فإن لديها مظاهر مختلفة بقدر ما لديها من جوانب مختلفة كذلك.
إن القربان من حيث هو ضمن العبادات المركزية حياتنا، يتم النظر له بشكل مختلف في الحقيقة من أحد لآخر. هناك العديد ممن ينظرون له على أنه وليمة لحم مثلًا، بالطبع ليس الكل ينظر لها كذلك، إلا إنه في النهاية نظرة موجودة، لكنها قد تزعج أحدًا ما. حسنًا، هل الكل يشارك تصوراته الخاصة أمام الناس؟ أو هل من الضروري أن يشارك الجميع تصوراتهم بالطريقة ذاتها؟
إن العبادات تجمع الناس في نقطة ما، وتصل بينهم، إلا أن هذا لا يعني أن الجميع يعيش تلك العبادات بالطريقة ذاتها أو يمر من الطريق ذاته. حتى ولو كان بمقدور العبادات جمع الناس على اختلاف المعتقد أو العمر أو التجرية أو الطبقة، فإن كل شخص يراها وفق تصوره المختلف عن الآخر. قد نلاحظ بحيرة أحيانًا وجود نهج مفرط نخبوي خاص إزاء بعض العبادات، مما لا يتناسب مع المستويات الفكرية ويحوي على نقص عاطفي.
في كثير من الأحيان ننظر لتقديم القربان-الأضحية كعبادة، عبر المشاهد التي تظهر تعامل الجزارين المبتدئين مع الحيوانات. لدرجة أننا نشعر بالحاجة نحو التفكير وفق بعد أكبر خلال القيام بها مع استحضار أدبياتها وفلسفتها والمعنى الاجتماعي لها. وإن هذا الموضع جدير بالنظر في مكامنه من حيث التفكير بعمق والبحث وإدراك ماهيته وفلسفته وأدبياته. وإن عدم امتلاكنا فلسفة وتفسيرًا خاصين بهذا الموضوع يعتبر مؤشرًا سيئًا في الواقع. لأن هذا الأمر إلى جانب كونه عبادة فهو تقليد في الأمر ذاته. إلا أنه مع الأسف لا يحصل على التقدير والاهتمام ذاته بكل حال. وحينما نقول “القربان على مستوى وجودي”، فإنني أريد تناول الجزء الظاهري من ذلك. وإلا فإنني بالطبع لا يمكنني تناوله من جميع الجوانب والحيثيات.
إن القربان هي مستوى وجودي، وإن هذه الكلمة باللغة العربية مشتقة من القرب. كلمة “قربان” أصلها عربية، إلا أنها أيضًا تركية للغاية (Kurban)؛ لأن العرب لا يستخدمون عادة كلمة قربان، بل يقولون أضحية أو فدية. وحتى عن “عيد القربان” بالتركية (Kurban bayramı)، يستخدمون “عيد الأضحى”، وفي اللغة الإنجليزية كذلك يستخدمون كلمة “victim” (ضحيّة) أو “sacrifice” (تضحية)، وبالطبع كلمة “ضحية أو تضحية” بحد ذاتها لا تحمل معنى مقدّسًا، بل تشير إلى أن شيئًا راح ضحية حادث أو جناية أو شيء من هذا القبيل. ولذلك السبب فإن استخدام كلمة “قربان” بالتركية حصرًا، يضفي معنًا خاصًا إضافيًّا لها. حيث أن كلمة “قربان” باتت مستخدمة عند الأتراك فحسب، بعد أن وردت إليهم من العربية مشتقة من حيث معناها الأصلي؛ من القرب والتقرّب.
القرب أو التقرّب هو ترجيح بحد ذاته، وهناك قاعدة فيزيائية بهذا الصدد؛ أن الإنسان لا يمكنه الاقتراب من نقطتين متضادتين في الوقت ذاته، بل إلى نقطة واحدة منهما. وبالتالي نحن نتحدث عن “تقرب-قرب-اقتراب” نابعة من اختيارنا وترجيحنا، وبنفس الوقت يشير هذا المعنى إلى ابتعادنا عن الجهة الضد للجهة التي اقتربنا منها. كالتوحيد والشرك على سبيل المثال، حينما نختار الاقتراب من جهة “التوحيد”، فإننا بالتالي نكون قد ابتعدنا عن جهة الشرك المضادة لها، والتضحية بكل معاني الشرك وما يتعلق به تقرّبا لجهة التوحيد. كذلك الأمر في جميع الأشياء التي نختارها، حيث عندما نختار شيئًا ما فإننا نكون قد ضحينا بجميع الأشياء الأخرى النقيضة له. ولذلك السبب فإن الذين يعتبرون أن إرادة الإنسان محدودة يتعامل بإجحاف مع هذه القضية، حيث أن “القربان:الأضحية” من حيث هي اختيار بالتقرب نحو جهة على حساب التضحية بنقيضها؛ لا تسري على المسلمين فحسب، بل هي حقيقة صالحة للبشرية كلها، وقاعدة أساسية لكل إنسان، من حيث الاختيار والترجيح في حياته. إننا نختار طقوس الأضحية ترجيحًا، ونختار الطاعة أو عدمها ترجيحًا، وحينما نختار الطاعة نكون قد اقتربنا-تقرّبنا من الله، وحينما نختار المعصية نكون قد ابتعدنا عنه.
لنمض من نقطة “القربان” نحو نقطة أخرى، هي حينما أراد سيدنا إبراهيم تقديم ابنه إسماعيل أو إسحاق قربانًا، هناك نقاشات حول فيما لو كان المضحَّى بها إسماعيل أو إسحاق، إلا أنه في الأدب الإسلامي عمومًا هو إسماعيل، إلا أن بعض المسلمين يعتبرون أنه من الممكن أن يكون هو إسحاق. وإن هذا الاختلاف بنظري هو مهم وجميل للغاية، حيث يُظهر بأن المسلمين ليس لهم عقدة بهذا الصدد. إلا أن اليهود وفق إرغامهم جميع النصوص الموجودة وتطويعها لإثبات أن المقصود بولد إبراهيم هنا هو إسحاق لا إسماعيل، ساعين بذلك إلى تحقيق أفضلية لهم بتصورهم من هذه النقطة.
لكن حينما يتم فحص النصوص بدقة وعمق، نجد أن الرأي القائل بأن المقصود هو إسماعيل الولد الأول لسيدنا إبراهيم عليه السلام، هو الرأي الأصوب والأرجح. لكن بكل حال ليس لدى المسلمين أي مقدار من التفكير بهذه الطريقة؛ أي بأن كون أحد الولدين هو الذي أريد تقديمه قربانًَا؛ يمنح أفضلية له على الآخر، مما يمنح أفضلية لهم أو لغيرهم على الآخر. إلا أن المسألة بالنسبة لليهود، هي أن كون إسحاق هو الذي أريد تقديمه قربانًا لا يحمل شرفًا فحسب، بل أفضلية وتميزًا كذلك. وإنهم في الواقع لا ينظرون للقضية كشرف لشخص إسحاق، بل للعِرق بحد ذاته.
ومع ذلك، فإننا كمسلمين حتى ولو صحت تلك الرواية اليهودية فإننا لا نرى أي فرق قائم، وإن كان هناك شرف تحصّل عليه سيدنا إسحاق من ذلك، فإننا نعتبره منسوبًا لنا كذلك، حيث لا نرى تفريقًا بين الأنبياء.
.