والواقع أن الآمال الراديكالية للمتطرفين في أقصى الساحة السياسية التركية تبدو مألوفة وليست غريبة عنهم. فالبعض يحلم بانتصار الاشتراكية في جميع أنحاء البلاد. بينما يقول آخرون أن استعادة الخلافة التي ألغيت عام 1924، هي أفضل طريقة لمعالجة مشاكل المجتمع المسلم. لكن الغريب في الأمر أن يشغل كبار المعارضين السياسيين أنفسهم بهذه الترهات بعدما دحضها كبار الشخصيات في إدارة أردوغان.
ويتجلى هدفهم الرئيسي وراء التذرع بأتاتورك وهو قيمة تركية مشتركة بين الجميع، في إفساد المزاج الإيجابي الذي ولّدته إعادة صبغة المسجد لآيا صوفيا وإقامة الصلاة فيه. هذا إن لم يكن زعماء المعارضة في تركيا قد جمعتهم المصلحة مع الذين يقفون وراء حملة التشهير الأخيرة ضد البلاد، بوصفهم أردوغان بالسلطان والخليفة، ومن ورائهم وسائل الإعلام الغربية التي تتوق إلى إضفاء هذه الصفات عليه.
إن عجز منظمة التعاون الإسلامي والتنافس الشرس بين الدول الإسلامية، يجعل من غير المتوقع للعالم الإسلامي أن يقف متضامناً ضد الكوارث التي تحل ببلدانه ناهيك عن تطلع أو تفكير أي من دوله باستعادة الخلافة. كما لم يعد سراً أن بعض القادة العرب الذين قابلوا ضم المسجد الأقصى بصمت مطبق كي يتجنبوا الإساءة لإسرائيل، يعلنون للملايين من شعوبهم المؤيدين لأردوغان أن “تركيا أكثر خطورة من إيران”.
ومع أن القوى من خارج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تلعب دوراً هاماً في النزاعات العنيفة في جميع أنحاء المنطقة، إلا أن السبب الرئيسي وراء تلك النزاعات يكمن في فشل القادة الإقليميين في التوصل إلى حلول وسطية فيما يتعلق بالدفاع عن مصالحهم المشتركة. فهل يمكن التعويل بالكثير على الأخوة والتضامن بين المسلمين ونحن نرى دول الخليج التي وقفت بشكل صارم ضد مطالبة الشعب العربي بالكرامة والعدالة والرفاهية. وعبد الفتاح السيسي الذي جعل مصر تشارك الإمارات العربية المتحدة بالتحريض وإذكاء نار جميع النزاعات العنيفة في المنطقة. كذلك تبدو إيران بميليشياتها الشيعية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، غير قادرة على التصرف كدولة قومية طبيعية أو مراعاة قوانين الجوار. وعلى عكس هؤلاء القادة الذين يدنسون الوحدة الدينية والروحية للمسلمين يمثل الرئيس التركي استثناءاً فريداً عندما يتحدث بمسؤولية عن الشعوب المضطهدة في سوريا وفلسطين وميانمار.
إن الدعائم السياسية الرئيسية لنهج الرئيس أردوغان تقوم على الدفاع عن المصالح الوطنية التركية باعتبار بلاده “دولة قومية قوية”. ولا يمكن بحال من الأحوال توقع أن يستسلم الرئيس التركي للرومانسية أو الانزلاق الإيديولوجي. وقد أشار رئيس دائرة الاتصال الرئاسية فخر الدين ألطون في مقابلة أجريت معه مؤخراً إلى النقطة ذاتها حين قال: “إن المحاولة المشبوهة للتحريض على صدام بين قيمنا الوطنية والروحية غير مجدية. نحن ضد جميع أشكال التطرف. كما ننظر إلى جدل الخلافة، الذي راح يتزايد مع إعادة جامع آيا صوفيا، على أنه جدل فارغ ولا معنى له. لأن هذا الادعاء ليس له أساس سياسي في تركيا”.
وعلى النقيض من ذلك، انتقد أردوغان الظلم العالمي مجسداً شعار “العالم أكبر من خمسة” في إشارة إلى مجلس الأمن الدولي. وبفضل محاولاته الاهتمام بالقضايا التي يواجهها المسلمون بكل ما أوتي من استطاعة، لا يحتاج إلى أي لقب آخر لأنه كقائد يحمل قيم الإيثار والانسانية بشكل لا مثيل له، حصل بالفعل على مكانة الشرف في قلوب الناس. إن وصف أردوغان “بالقائد الرمز” بات يطارد القادة العرب، الذين أثبتوا بوضوح من خلال عداوة أبواقهم، أنهم غير مستعدين وغير قادرين على الدفاع عن مصالحهم الوطنية.
أخيراً، لا أعتقد أن أحزاب المعارضة التركية يمكنها تنفيذ سياسة الاستقطاب بنجاح من خلال التذرع بأتاتورك حتى لو أراد زعماؤها ذلك، لأن حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة لم تصحح سياسات العلمانية المتطرفة المتمثلة بنظام الحزب الواحد فحسب، بل قامت أيضاً بتطبيع مبدأ العلمانية في أعين المحافظين المسلمين في تركيا. وبالرغم من أن نقد النهج الكمالي قد يستمر بالفعل، لكن أتاتورك الذي يمثل قيمة مشتركة لأمتنا، يتمتع اليوم بمكانة أكبر.
.
بواسطة / برهان الدين دوران