برنارد إيمي، سفير فرنسا في أنقرة ما بين عامي 2007 و2011، يترأس حاليا في بلاده المديرية العامة للأمن الخارجي. وهو يعرف تركيا وثقافتها ويجيد لغتها، نظرا لعمله فيها لحوالي أربع سنوات. كما أن رئيسة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA” جينا هاسبل، سبق أن عملت في تركيا في بداية القرن الحالي، وتجيد اللغة التركية. أما في روسيا، فالمتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، درس اللغة التركية في جامعة موسكو، وعمل في سفارة بلاده بأنقرة.
اهتمام الدول الغربية بتركيا أمر ليس بغريب، لأن تركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية وتقع في منطقة إستراتيجية غاية في الأهمية من الناحية الجيوسياسية، مرتبطة بمناطق البلقان والقوقاز والشرق الأوسط. ويشير المفكر الاستراتيجي زبيغنيو بريجينسكي في كتابه الشهير “رقعة الشطرنج العظمى”؛ إلى تركيا كأحد المحاور الجيوسياسية ذات الأهمية البالغة.
وسعت القوى العظمى المشاركة في الحرب العالمية الثانية، إلى دفع تركيا للانضمام إلى صفوفها لتغيير التوازنات. وكان رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك، ونستون تشرشل، قد بذل جهدا كبيرا للضغط على رئيس الجمهورية التركي، عصمت إينونو، وإقناعه بضرورة تخلي تركيا عن تصدير الكروم إلى ألمانيا وإعلان الحرب عليها. وفي بداية الحرب الباردة، سارعت الولايات المتحدة إلى دعم تركيا ضد أطماع الاتحاد السوفييتي في إطار سياسة الاحتواء. ولأن تركيا اليوم أقوى من تركيا القرن الماضي، فمن الطبيعي أن تتابع القوى الدولية والإقليمية تحركات أنقرة عن كثب، وتسعى إلى تعزيز علاقاتها معها.
وزير الدفاع اليوناني السابق، إيفانجيلوس أبوستولاكيس، في تصريحاته قبل أيام ببرنامج تلفزيوني، أشار إلى هذه النقطة، وقال إن رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان ليس محشورا في زاوية ولا ضعيفا، كما يتوهم البعض، مؤكدا أن تركيا حاضرة في جميع المنصات الجيوسياسية، ويُنظر إليها على أنها لاعب مهم، وأن كافة الدول بما فيها الولايات المتحدة ترغب في علاقات جيدة مع أنقرة. وحذر حكومة بلاده قائلا إن الأوروبيين في نهاية المطاف سيفضلون تركيا على اليونان للحفاظ على مصالحهم، إن وضعت التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية في الميزان.
تعيين ريتشارد مور على رأس جهاز المخابرات الخارجية في بريطانيا، فسَّره بعض المحللين برغبة لندن في تكثيف أنشطتها الاستخباراتية داخل تركيا لعرقلة صعود دورها، إلا أن هذا التفسير المؤامراتي واختزال سبب التعيين في جانب واحد يحجب رؤية جوانب أخرى إيجابية، كرغبة بريطانيا في تعزيز علاقاتها مع تركيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. كما أنه ليس ضروريا أن يكون تعيين الرجل لرئاسة “MI6” فقط لعمله في تركيا وإجادته لغتها دون مؤهلاته الأخرى. ومن الممكن أن يفتح وجود دبلوماسي يعرف تركيا والأتراك جيدا على رأس جهاز المخابرات الخارجية في بريطانيا؛ آفاق تعاون جديدة بين البلدين.
الحذر مطلوب، ولكن لا داعي للخوف والهلع، لأن جهاز الاستخبارات الوطنية التركي “MİT” عزَّز قدراته في السنوات الأخيرة، وأصبح يلعب دورا كبيرا في دعم عمليات الجيش التركي خارج البلاد، ويُطرق بابه لطلب مساعدته في عمليات تحرير المختطفين وغيرها في مختلف الأماكن في العالم، نظرا لنفوذه الواسع.
وكما قال رئيس الجمهورية التركي قبل أيام في كلمته بمراسم افتتاح المبنى الجديد لجهاز الاستخبارات الوطنية التركي في إسطنبول، قام الجهاز بتغيير اللعبة في ليبيا من خلال عملياته الاستخباراتية. ومن المؤكد أنه قادر على منافسة كل تلك الأجهزة الاستخباراتية التي يقودها أشخاص سبق أن عملوا في تركيا، بالإضافة إلى أن اهتمام أجهزة الاستخبارات الكبيرة بتركيا يدل على أهمية البلاد في المعادلات الدولية والإقليمية.
العالم مقبل على تغيرات جسيمة، في ظل تقلبات تشهدها العلاقات الدولية، وجائحة تضرب جميع أنحاء المعمورة. ومن الصعب التكهن بمصير النظام العالمي. وبالتالي، فمن الطبيعي أن تراقب القوى الدولية والإقليمية تحركات الدول المؤثرة ذات الوزن، وأوضاعها الداخلية، لمعرفة واقعها، واستشراف مستقبلها، والتأثير في قراراتها ومواقفها.