اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية كانت متوقعة ولكن ليس بمثل هذه السرعة بعد الحديث عن نقاط تباعد وخلاف أساسية بين الطرفين سبقها 12 جولة مفاوضات دون نتيجة. فما الذي سرع التفاهمات وكيف تمت التسويات ومن كان الضامن فيها؟
اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية في تشرين الثاني المنصرم حملت معها كثيرا من المفاجات الصادمة لمحور منتدى الطاقة السباعي الذي استبعدهما عن طاولة القاهرة: هي أضعفت فرص وحظوظ مشروع خط نقل الطاقة “ميد ايست” المصري اليوناني الإسرائيلي بغطاء فرنسي روسي وأعادت تركيا وليبيا إلى قلب المشهد في شرق المتوسط وأن لا فرص لأي مشروع إقليمي في استخراج ونقل الطاقة في المنطقة رغما عنهما.
تصريحات القاهرة وأثينا حول أن اتفاقيتهما تلغي الاتفاقية التركية الليبية الأخيرة الموقعة في تشرين الثاني المنصرم بشأن ترسيم الحدود بين البلدين توجز الهدف الأول والحقيقي لمصر واليونان من خلال هذا التقارب السريع. القاهرة وأثينا يريدان أن يقولا إنه مقابل التفاهمات التركية الليبية هناك تفاهمات مصرية يونانية.
وصف الإعلام المصري والإماراتي واليوناني لما جرى بأنه صفعة للدبلوماسية التركية ونقطة تحول استراتيجي في شرق المتوسط يعكس مرة أخرى حجم الاصطفافات الإقليمية والدولية في حوض المتوسط الشرقي وتضارب الحسابات والمصالح الذي يتحول تدريجيا إلى اصطفاف أميركي روسي وأوروبي أوروبي وتكتلات إقليمية تريد باريس وموسكو تحديدا من خلالها إعادة رسم الخرائط وتقاسم النفوذ مع أميركا اللاعب الممسك حتى الآن بأكثر من ورقة أطلسية أوروبية شرق أوسطية.
أثينا وبعد ساعات من توقيع الاتفاقية لخصت نتائجها على أنها تسد فجوة مهمة في التوازنات البحرية في شرق المتوسط وتسقط الاتفاقية البحرية التركية الليبية التي لا أساس لها وتحدد مدى الجرف القاري للجزر اليونانية.
القاهرة بدورها تقول إنها قررت المناورة في البقعة الرمادية من شرق المتوسط وقبول التصعيد مع تركيا عبر الأوراق اليونانية والقبرصية والإسرائيلية.
لا نعرف الكثير بعد حول بنود ومواد الاتفاقية المصرية اليونانية لكن الإعلام المصري والإماراتي حولها إلى لحظة تاريخية ضد تركيا الواجب تلقينها الدرس. القاهرة وأثينا يحاولان الاستقواء بمواد وأسس قانونية تحمي مصالحهما على حساب الأطراف الأخرى في بقعتين جغرافيتين لهما خصوصيتهما حيث لا يمكن حماية مصالح الدول المتشاطئة دون تفاهمات شاملة وكاملة حول تحديد حصص الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة وحتى مساحة المياه الإقليمية نفسها.
لا فائدة إذا من الحوار التركي اليوناني كما يبدو ولا قيمة لجهود التهدئة التي بذلتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قبل 3 أسابيع على جبهات شرق المتوسط – إيجه، فهناك أطراف مثل فرنسا والإمارات وروسيا تحاول تأجيج النزاع لتضييق الخناق على تركيا في المكانين حتى ولو كان الثمن إشعال المواجهات بين حلفاء تكتلي الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
أنقرة تقول إنها اتفاقية باطلة لا قيمة لها وأن القاهرة تعطي اليونان ما هو ليس لها وتقودها لإشعال المواجهات معها وإنها اتفاقية فيها الكثير من المبالغة الخيالية فالمسافة البحرية بين اليونان وشرق المتوسط بالمقارنة مع بقية الدول تتطلب الالتفات إلى مصالح الدول المتشاطئة أولا وهذا ما لم تفعله القاهرة وإنها ستواصل حماية مصالحها أمام الطاولة وفي الميدان.
الرد التركي سيكون على مراحل وعبر إعادة تفعيل عمليات التنقيب عن الطاقة في المتوسط وإيجه ورفع عدد المناورات العسكرية في المنطقتين وتسريع المفاوضات الثلاثية بين تركيا ومالطا وليبيا في شرق المتوسط وتحريك ملف قبرص التركية لناحية فتح أبواب مدينة مراش التاريخية المغلقة منذ عقود في إطار تفاهمات إقليمية ترافقها مفاجآت أخرى في الجزيرة واللجوء إلى الأمم المتحدة للاعتراض على اتفاقيات تتجاهل حقوقها المائية.
بنود البيان الموقع قبل أشهر في القاهرة بين مصر وفرنسا والإمارات واليونان وقبرص اليونانية الذي يدعو لإلغاء اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا ويرفض أعمال التنقيب التركية في شرق المتوسط وإيجه وداخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص اليونانية، ويدعو أنقرة لإنهاء خروقاتها الجوية في اليونان ووقف تدخلها العسكري في ليبيا يعكس حجم الاصطفافات وأهداف استراتيجية التحرك الخماسي الإقليمي ضد تركيا.
ردود الفعل المصرية والإماراتية حول الاتفاقية المصرية اليونانية وما قاله مثلا وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، وهو يرحب بالاتفاقية بعد ساعات من الإعلان عنها “انتصار للقانون الدولي على قانون الغاب”، وحيث “لا يجوز للأمم المتحضرة أن تشرعن التغوّل السياسي على حساب الأسس التي تحكم العلاقات الدولية “، يعكس حجم رغبة الدولتين العربيتين في دعم المشروع الفرنسي والدفاع عن مصالح اليونان وقبرص اليونانية في مواجهة تركيا.
القيادات السياسية التركية رددت أكثر من مرة أنها لا تريد مواجهة مصر في المنطقة لكن الاتفاقية الأخيرة قد تدفع أنقرة لمراجعة مواقفها وحساباتها في احتمال اقتراب موعد الانتقال من المواجهات بالوكالة إلى الصدام المباشر خصوصا إذا ما أخذنا برسائل تركيا لأبو ظبي حول تصفية الحسابات التي أطلقها وزير الدفاع التركي خلوصي آكار قبل أيام وهو يتحدث عن حجم الاستهداف الإماراتي للمصالح التركية.
احتمالات المواجهات العسكرية المباشرة تتقدم مرة أخرى في شرق المتوسط وإيجه. أنقرة تقول إنها قررت الرد وأثينا منذ فترة وهي تردد عبر المتحدث باسم الحكومة اليونانية ستيليوس بيتاس “لسنا خائفين، وعلى استعداد لأي احتمال”. الاتحاد الأوروبي من خلال جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، يقول إنه يريد التهدئة بين أنقرة وأثينا لكنه يدعو تركيا “إلى التوقف عن الحفر في المناطق التي توجد فيها المنطقة الاقتصادية الخالصة أو المياه الإقليمية اليونانية والقبرصية” فهل سنرى موقفا أوروبيا موحدا إلى جانب اليونان وقبرص اليونانية إذا ما اشتعلت الجبهات؟
هناك أطراف مثل تل أبيب ودمشق وبيروت لم تحسم مواقفها بعد لكن الراعي الفرنسي يواصل ضغوطاته وعروضه السياسية بشكل مباشر أو عبر وسطاء مثل روسيا وعواصم عربية لتوسيع رقعة الاصطفافات ضد تركيا. الكرة مرة أخرى في ملعب أميركا لأن ما يجري هو بين حلفاء إقليميين لها فهل تقدم هدايا مجانية من هذا النوع لموسكو بمثل هذه البساطة؟
.