هل يشق محرّم إينجة حزب الشعب الجمهوري؟

لا يكاد المشهد السياسي التركي الداخلي يهدأ حتى يعود لحالة من الغليان. فقد أدى الانتقال إلى النظام الرئاسي في البلاد بعض ديناميات الأحزاب السياسية، من حيث ثقلها في النظام من جهة والتوازنات داخلها وبينها من جهة أخرى، أي على صعيد التحالفات والانشقاقات، وكان آخرها حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة.

فقد نقلت بعض وسائل الإعلام أن القيادي السابق في الحزب ومرشحه للانتخابات الرئاسية محرّم إينجة يعتزم الانشقاق عنه وتأسيس حزب جديد إثر الخلافات الحادة بينه وبين قيادة الحزب.

الخلاف بين إينجة وكليتشدار أوغلو ليس وليد اليوم، وإنما يمتد على مدى سنوات شهدت ترشح الأول مقابل الثاني في مؤتمره العام أكثر من مرة وخسارته معركة رئاسة الحزب بعد حصوله على ما يقرب من ثلث أصوات المناديب الممثلين لقاعدة الحزب. وهو أمر يظهر وجود اعتراضات داخلية على قيادة كليتشدار أوغلو من جهة، وقوة حضور إينجة من جهة أخرى.

هذان العاملان دفعا إلى تقديم الرجل مرشحاً رئاسياً عن الحزب، على عكس رغبة رئيسه في البداية، وقد كنتُ كتبت حينها أنه أسلوب لتقليم أظافر إينجة داخل الحزب إذ كانت خسارته أمام اردوغان شبه محسومة، وبالتالي تُسحب من يده الذريعة التي يرفعها في وجه قيادة الحزب، أي الخسائر المتكررة مقابل العدالة والتنمية.

وعلى عكس توقعات قيادة الحزب، فقد اعتبر إينجة أن الانتخابات كانت فوزاً له، أو بالأحرى أظهرت تفوقه على حزبه وأحقيته بقيادته. حيث حصل هو في الرئاسيات على أكثر مما حصل عليه حزبه في انتخابات البرلمان بحوالي أربعة ملايين صوت أو %8 من الناخبين.

أوحت نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسيةبأن الكرسي قد اهتز تحت كليتشدار أوغلو وأن المؤتمر المقبل لحزبه قد يشهد الإطاحة به لصالح إينجة، إلا أن الانتخابات البلدية ثبتته إلى حين، لا سيما بعد الفوز برئاسة بلديتَيْ إسطنبول وأنقرة.

المعلن في الخلاف بين إينجة وكليتشدار أوغلو هو الفشل المتكرر في الانتخابات، لكن جوهره يعود إلى أفكار الحزب وخطابه. باختصار غير مخل، يمثل إينجة التيار الأكثر تشدداً في علمانيته والتزاماً بالتراث الكمالي، بينما يسعى كليتشدار أوغلو وقيادة الحزب الحالية للانفتاح على الشرائح المحافظة في المجتمع رغبة في أصواتهم.

ومن هنا أتى ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو للانتخابات الرئاسية في 2014، وأكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش لبلديتي إسطنبول وأنقرة على التوالي في 2019، فضلاً عن السعي لترشيح الرئيس السابق عبدالله غل كمرشح رئاسي توافقي لكل المعارضة في 2018 قبل أن تفشل هذه المساعي.

المؤتمر العام الأخير للحزب، والذي أجري في الخامس والعشرين من الشهر الفائت، قطع شعرة معاوية فيما يبدو بين قيادة الحزب وإينجة، حيث يرى الأخير أنه استُغِلَّ لتصفية الأصوات المعارضة وخصوصاً تلك المطالبة بالتجديد أو الموالية له. كما أن المؤتمر شهد تغيراً رمزياً لفت نظر جميع المراقبين، وهو اختيار شابة محجبة في مجلس الحزب، الهيئة الأعلى فيه.

السؤال الآن، مع الخلاف حول الأيديولوجيا والخطاب، وكذلك منظومة التحالفات، وكذلك الصراع على كرسي رئاسة الحزب، هل سينشق إينجة فعلاً ويؤسس حزباً جديداً من رحم الشعب الجمهوري؟

نظرياً، الإجابة نعم، وقد صدرت عن الرجل تصريحات وتغريدات في وسائل التواصل تدعم هذه الفكرة. لكن عملياً يبدو الأمر أصعب بكثير ويتطلب من إنجة إعادة التفكير مراراً.

اقرأ أيضا

تركيا تُزوّد سوريا بالكهرباء.. تصريح عاجل لوزير الطاقة…

ليست هي المرة الأولى التي تنشق فيها شخصيات قيادية من الشعب الجمهوري لتؤسس أحزاباً جديدة، خصوصاً من التيار الكمالي الذي يرى أن الحزب قد “انحرف” عن مساره وفكره في مسعاه للتودد للشريحة المحافظة. وفي مقدمة هؤلاء حزب الأناضول بقيادة أمينة أولكر تارهان في 2014، وحزب التجديد الذي ما زال تحت التأسيس بقيادة قنصل الموصل الأسبق أوزتورك يلماظ.

هذه الانشقاقات السابقة بقيت على هامش حزب الشعب الجمهوري، كأغلب الانشقاقات عن الأحزاب الكبيرة، وبالتالي تمثل سوابق ينظر إليها إينجة اليوم وهو يفكر في تأسيس حزب جديد ويأخذ منها العبرة.

إلا أن إينجة لا يقارن نفسه بالتأكيد بتارهان أو أوزتورك، وإنما ببولند أجاويد الذي كان الرئيس الثالث للحزب بعد أتاتورك وإينونو قبل أن يؤسس – بعد انقلاب 1980 – حزب اليسار الديمقراطي ويبرز في المشهد السياسي كأبرز أحزاب اليسار والأقوى حضوراً من الشعب الجمهوري لعشرات السنين تخللتها رئاسته للحكومة عدة مرات.

يقارن إينجة نفسه ويقارنه بعض الكتاب بأجاويد من حيث القوة والحضور، كما أنه يرى نفسه الأكثر تمثيلاً لأفكار أتاتورك وحزب الشعب الجمهوري التقليدية. ورغم ذلك، يبقى في الأمر صعوبة كبيرة لأن عدداً من الأسماء الكبيرة من هذا التيار إلى جانب كليتشدار أوغلو وفي مقدمتهم رئيسة فرع الحزب في إسطنبول جانان كافتانجي أوغلو والناطق السابق باسمه سلين صائك بوكة، والتي اختيرت لمنصب الأمين العام للحزب بعد المؤتمر الأخير.

الأهم من كل ما سبق أن إينجة لا يريد “الانشقاق عن الشعب الجمهوري”، وإنما “قيادته ورئاسته”. فهو يعدُّ نفسه الأكثر تمثيلاً له وأن القيادة الحالية حادت به عن الجادة،ولذلك فتأسيس حزب جديد سيكون أمراً صعباً، خصوصاً وأن اسم الحزب يبقى علامة مسجلة ولها رمزيتها في المخيال التركي وبين أنصار الحزب باعتباره “الحزب الذي أسَّسه أتاتورك”.

في محصلة كل ما سبق، يمكن القول إن إينجة يحاول رفع مستوى الصغط على قيادة الحزب ملوحاً بتأسيس حزب جديد، ولم يبدأ بالضرورة بخطوات التأسيس. ويملك الرجل في يده ورقة قوية، إذ أن تطوراً كهذا سيلحق ضرراً كبيراً بأكبر أحزاب المعارضة، من حيث شق صفه وتقسيم أنصاره وأصواته، وكذلك المزايدة عليه وإحراجه في الخطاب والمواقف ومحاولة إبعاده عن الخط الحالي المتصالح مع المحافظين، ما سيضعف الحزب كثيراً فعلياً ورمزياً ويسحب لقب “زعيم المعارضة” الذي يحظى به كليتشدار أوغلو اليوم.

فكرة الضغط والمساومة حاضرة، ومن أدلتها حصول بعض الوساطات من رؤساء سابقين للحزب في مقدمتهمدنيز بايكال، لا يبدو أنها دفعت كليتشدار أوغلو لتليين موقفه حتى اللحظة، حيث لا يريد الأخير أن يظهر بموقف الضعيف أو الذي انحنى أمام الضغط حتى لا يصبح الأمر سابقة.

لكن، ثمة من يرى بأن إينجة لم يُعامل بشكل لائق، حيث تُرِكَ خارجَأطُرِ الحزب القيادية بعد الانتخابات الرئاسية وأنه ينبغي احتواؤه، كما أن الكثيرين يرون أن انشقاقه سيرتد سلباً على الشعب الجمهوري. ولذلك فمن المتوقع أن تستمر الوساطات والنقاش الداخلي الذي قد يتحول ضغطاً على قيادة الحزب لتأخذ خطوة تجاهه.

هكذا، يصبح من غير المستبعد أن يجلس الرجلان، كليتشدار أوغلو وإينجة، إلى الطاولة للحوار حول السبل الممكنة لاحتواء الخلاف. وهو ما يمكن أن يجنّب الحزب انشقاقاً صعباً عليه، في حين هو يحاول استثمار تأسيس أحزاب جديدة من رحم العدالة والتنمية، وكذلك يعطي إينجة فرصة لمحاولة خوض ثم كسب معركته من داخل الحزب لا من خارجه.

في محصلة كل ذلك، ما زال ثمة وقت قبل أن نرى خطوات ملموسة بخصوص الحزب الجديد المزمع تأسيسه، وما زال هناك فرصة أمام قيادة الحزب لإقناعه وثنيه عن هذا المسار وإن كان ذلك بات اليوم أصعب من السابق.

هذا بالحسابات المنطقية، لكن بعض تصريحات إينجة توحي بأنه قد أحرق كل سفنه مع حزبه ويستعد لخوض التجربة/المغامرة التي ستصيب شظاياها الشعب الجمهوري وإن بقيت على هامشه في الأغلب. لكن مدى الضرر ومستواه وحدوده ستتضح أكثر لاحقاً حين يُعلَن الحزب – إن أعلن – ونعرف الأسماء التي تقف إلى جانب إينجة وثقلهاوتأثيرها.

سعيد الحاج/ TRT عربي
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.