أكثر ما لفت نظري حقيقة في كلمة رئيس المحكمة العليا السيد محمد أكارجا، خلال حديثه وتقييمه المطوّل حول القانون والعدالة
في تركيا، هو حديثه عن مرحلة تأسيس الجمهورية التركية وكيف تم اقتباس قوانين عديدة من دول أجنبية، بما يتماشى مع سياسة
التغريب التي كانت متبّعة إبان تلك المرحلة. وفقًا لأكارجا، فإن “التراكم المعرفي الموجود في بلدنا الآن إلى جانب الموارد البشرية
والثقافة القانونية، ستمكننا من الآن فصاعدًا من تطوير قوانينا بأنفسنا ولوحدنا”. إلا أنه على الرغم من ذلك لا يجدر بأي حال تبرير
حالة استيراد القوانين من الخارج إبان تأسيس الجمهورية، في الوقت الذي لم تكن فيه تركيا بعيدة أو عاجزة عن تطوير قوانينها
بنفسها، وإن هذه لمسألة يجدر بنا أن نناقشها بكل عناية. وبمعنى آخر، حتى في ذلك الوقت أي مطلع القرن الماضي؛ لم تكن تركيا
تعاني من نقص معرفي ولا نقص في الثقافة القانونية بشكل يستدعي طرق أبواب الخارج لاستيراد القوانين. بل في الحقيقة كان
نتيجة اختيار إيديولوجي لا أكثر.
إقرأ إيضا : العدالة والتنمية: لا يمكن لأحد أن يتدخل في نظامنا السياسي
إلا أن السيد أكارجا يستحق حقيقة أن نسلط الضوء على ما تناوله خلال تلك الحقبة، وعن الحقبة الآن، حيث قال: “إلا أن الذي
يليق بنا ليس الاستيراد وفق مفهوم سهل يبيح لنا الاستهلاك فحسب، بل الذي يجدر بنا هو كما نحن عليه في كل مجال الآن،
أن نقوم بالإنتاج وفق ركائز فكرية تجعلنا مثالًا يحتذى به في مجال القانون وتجعلنا نصدّره نحن للخارج. أن نبحث عما يلائم
أذهاننا وان نقرأ الحقائق بأعيننا دون الاعتماد على أحد، وأن نقوم بتحديد المشاكل المحلية والعالمية دون أي تأثير من أحد،
ومن ثمّ نسعى لإنتاج حلول عادلة نقدّمها لشعبنا وإنسانيتنا… ليس تركيا فقط، بل على جميع دول العالم أن تتخلص من آثار
الاستعمار ما بعد الحداثة”.
أما رؤية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول العدالة تتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق. بدأ أردوغان كلمته بقول أن “العدالة هي
فوق كل شيء”، وراح يتحدث عن النضال الذي تخوضه تركيا في البحر المتوسط وبحر إيجة، وأن معركتها هناك تستند إلى العدالة،
وذكر أن الشعار الذي طالما يرفعه باسم تركيا “العالم أكبر من خمسة” إنما ينطلق أيضًا من مفهوم العدالة.
من سوريا إلى ليبيا وفي كل الأماكن التي نتواجد فيها، ليس لدينا مفهوم رئيسي ننطلق من خلاله سوى العدالة. هناك انتهاكات
صارخة لحقوق الإنسان ومجازر واضطهادات، وإن تركيا حينما تدخل تلك الأماكن التي لا يوجد أحد في العالم يستنكر أو يكترث
لما تعانيه من آلام، فإن تركيا تدخل وهي تطالب بإحقاق العدالة.
إن محاولة حبس تركيا داخل سواحلها بسبب جزيرة لا يتجاوز حجمها 10 كيلومتر مربع، بينما يتم تجاهل مساحة تركيا العظيمة
التي تبلغ 780 ألف كيلو متر مربع، لا شك أنه أكثر مثال واقعي على انعدام الحقوق والعدالة. بينما هناك من يتبنّى سياسة التقسيم
هذه بكل وقاحة وتهور، فإن تركيا واضعة نصب أعينها تحقيق القانون والعدالة فحسب، مدركة أن غنى البحر المتوسط هو من
حق جميع الدول كلها لا دولة دون أخرى، مجابهةً كل مظاهر الاستعمار الحديث في عالم منهار.
إقرأ إيضا : أردوغان: “العدالة والتنمية” هو حزب أمتنا قبل كل شيء
للأسف، هناك بعض الدول التي تظن نفسها قوية وعظيمة ومزدهرة ولا تُقهر، لا تمتلك أي آلية لمحاسبة ظلمها الذي تعامل به الآخر.
إن خمسة دول فقط في هذا العالم اتفقت فيما بينها على عدم الاكتراث للظلم والمظالم تحاول التستر عليها عبر جملة من
الخداع اللفظي الدبلوماسي. ولذا يجب أن لا نتفاجأ حينما نرى الرئيس أردوغان يعطّل مشاريع تلك الدول، بينما يصدح بشعاره
“العالم أكبر من خمسة”. إنه تمرد من أجل العدالة.
هناك مفاهيم ملتوية مشوّهة تقوم على أن أشياء مثل الديمقراطية والأمن والرفاهية ليس إلا من حق مجتمعات معينة في هذا
العالم أما الآخرون فهم لا يحملون أي قيمة بالنسبة لهم سوى الخدمة. ولهذا السبب نجدهم لا يسمحون بوجود ديمقراطية
وازدهار خارج بلدانهم، حتى على صعيد الحروب فيما بينهم تجدهم يختارون أوطانَ أمم مضطهدة كقاعدة حروب فيما بينهم.
للسبب ذاته يرى أردوغان أن تلك الدول او المجتمعات تريد لتركيا أن تكون ضحية لاضطهادهم وظلمهم، ولذلك نجد تركيا لا تملّ
عن السعي في كل محفل عن المطالبة بتحقيق العدالة وإقرار الحقوق، وهي حينما تطالب بذلك تتحدث باسمها وباسم الإنسانية والعدالة والمشتركة.
إقرأ إيضا : أردوغان: مؤتمر العدالة والتنمية القادم سيكون “ولادة جديدة”
إن تركيز الرئيس أردوغان خلال حفل افتتاح العام القضائي الجديد، على الرؤية التي تقوم على عدم الاكتفاء بتحقيق العدالة في
الداخل بل في العالم كذلك، يحمل معنى مهمًّا للغاية. وليس من الفراغ أن العدالة هي جزء من اسم “حزب العدالة والتنمية”
الذي يقوده أردوغان. ومن المقدّر عليه أن يحمل على عاتقه هذا المبدأ “العدالة”، لينشده في تركيا والعالم بأسره.
.