عن الأحزاب “الصغيرة الجديدة” في تركيا
فقد أسس القياديان السابقان في العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو وعلي باباجان حزبَيْ “المستقبل” و”الديمقراطية والتقدم” على التوالي، وانشق عن الحركة القومية مجموعة من القيادات أسست الحزب “الجيد” بقيادة ميرال أكشنار، ثم انشق عن الأخير حزب “النصر” بقيادة القيادي السابق فيه أوميت أوزداغ.
جزء من الأحزاب الصغيرة مثّلَ ظاهرة في الحياة السياسية التركية في السنوات الأخيرة، وهي على وجه التحديد الأحزاب التي انشقت عن الأحزاب التقليدية الكبيرة أو خرجت من رحمها، وأسّستها قيادات سابقة بارزة في هذه الأحزاب
كما انشق عن الشعب الجمهوري عدة أحزاب صغيرة آخرها وأهمها حزب “البلد” بقيادة القيادي السابق فيه ومرشحه للانتخابات الرئاسية محرم إينجه، وعن حزب السعادة حزب “الرفاه مجدداً” بقيادة فاتح أربكان، نجل زعيمه الراحل نجم الدين أربكان.
ولئن بقي حزب الشعوب الديمقراطي الوحيدَ غير المتشظي حتى اللحظة من الأحزاب الكبيرة المعروفة، إلا أن هناك خلافات معروفة داخله وشائعات حول انقسام قد يتعرض له قريباً، ما يعني أن ظاهرة تشظي الأحزاب السياسية تشمل جميع الأحزاب المعروفة في تركيا مؤخراً.
ولئن كانت الخلافات داخل هذه الأحزاب هي السبب الرئيس للانشقاقات، إلا أن الانتقال للنظام الرئاسي في 2018 قد ساهم في ذلك بشكل ملحوظ وسرّع خطواتها، من باب أن مؤسسة الرئاسة باتت أهم بكثير من البرلمان من جهة، وتشكيل الحكومات يتم بغض النظر عن ثقل الأحزاب في الأخير من جهة ثانية.
لئن كانت الخلافات داخل هذه الأحزاب هي السبب الرئيس للانشقاقات، إلا أن الانتقال للنظام الرئاسي في 2018 قد ساهم في ذلك بشكل ملحوظ وسرّع خطواتها
حالياً، تبدو الأحزاب الصغيرة المستجدة في الساحة التركية غير مؤثرة في المشهد السياسي. فاستطلاعات الرأي لا تعطيها وزناً كبيراً، وهي أقل حضوراً بكثير من العتبة الانتخابية التي يشترط لدخول البرلمان تخطيها أو التحالف مع حزب يتخطاها (10 في المائة)، ولا أحد منها يملك حالياً عدداً مؤثراً من النواب في البرلمان، كما أن تاريخ تركيا السياسي يشهد بغياب التأثير الكبير للأحزاب المنشقة عن أحزاب عريقة.
بيد أن الثقل الحقيقي لهذه الأحزاب قد يكون أكبر مما يبدو عليه اليوم، وقد تكون مرشحة للعب أدوار أهم في المستقبل. فهي تكسب أنصاراً أكثر مع مرور الوقت، وتكسب حضوراً أكبر في الأزمات والتحديات التي تواجه الأحزاب القائمة. وطبيعة النظام الجديد وحالة الاستقطاب الشديد بين التحالفَيْن الرئيسين في البلاد تجعلان كلَّ درجة وربما كلَّ صوت في الانتخابات المقبلة مهماً، ما يرفع من أهمية وثقل هذه الأحزاب في نظر الأحزاب الكبيرة التي ستسعى للتوافق وربما التحالف معها.
كما أن العتبة الانتخابية مرشحة للخفض أكثر ضمن قانون الانتخاب الجديد، بحيث تكون 7 في المائة أو 5 في المائة وربما أقل، ما قد يفتح الباب لبعضها على الأقل لدخول البرلمان بمفردها.
في المقابل، لا تبدو مهمة هذه الأحزاب سهلة ولا دربها ميسّرة، فمن الصعب عليها – على معظمها على الأقل – دخول البرلمان بمفردها وفق الظروف الحالية، وتحالفها مع الأحزاب الأقرب لها فكرياً وسياسياً صعب جداً لأنها الأحزاب الكبيرة التي انشقت عنها في الأصل، بينما تحالفها مع خصومها (وخصوم الأحزاب التي انشقت عنها) قد يعني انتحاراً سياسياً في نظر كوادرها وأنصارها.
لكل انتخابات ظروفها وسياقها وشروطها التي تفرض نفسها على مختلف اللاعبين، وقد تجد هذه الأحزاب (والأحزاب التقليدية كذلك) نفسها أمام واقع مختلف بين يدي الانتخابات المقبلة
بهذه النظرة تبقى الأحزاب الجديدة اليوم دون توجهات واضحة بخصوص التحالفات الانتخابية، خصوصاً وأنها مشغولة بتثبيت أقدامها وإقناع الشعب ببرامجها وحشد الأنصار، إلا أن اقتراب موعد الانتخابات في حزيران/ يونيو 2023 واحتمالات تبكيرها قد تضعها أمام لحظة الحقيقة قريباً جداً.
ولذلك قد يكون الخيار الأسلم – وليس بالضرورة الأفضل – بالنسبة لهذه الأحزاب الجديدة أن تشكل فيما بينها تحالفاً ثالثاً، بحيث يضم الأقرب منها لبعضها البعض فكرياً وسياسياً، وبما يضمن لها تخطي العتبة الانتخابية معاً، ويجنبها الدخول في معركة مباشرة – تحالفاً أو صراعاً – مع الأحزاب الكبيرة.
لكن، وكما نقول دائماً، لكل انتخابات ظروفها وسياقها وشروطها التي تفرض نفسها على مختلف اللاعبين، وقد تجد هذه الأحزاب (والأحزاب التقليدية كذلك) نفسها أمام واقع مختلف بين يدي الانتخابات المقبلة. وكما قال الرئيس التركي الأسبق سليمان دميريل: “24 ساعة مدة طويلة جداً في السياسة” في تركيا.