معركة الانتخابات المقبلة في تركيا لن تكون هذه المرة مجرد تصويت لاختيار رئيس جديد أو برلمان آخر. بل هي عملية كسر عظم بين فكرين ونهجين وأسلوبين في الحكم والإدارة إلى جانب حصد ارتدادات الأجواء السياسية والاقتصادية والمعيشية في الداخل، وطريقة تعامل حزب العدالة والتنمية في الحكم مع العديد من الملفات الإقليمية في الخارج.
هي ستكون مواجهة بين أنصار إعادة تركيا إلى النظام البرلماني وتموضعها القديم في علاقاتها مع دوائر غربية وإقليمية ونظرة مغايرة في ملفات سوريا وأوكرانيا وأفريقيا والعالم العربي، وبين “تحالف الجمهور” الذي يقول إنه الوحيد القادر على مواصلة مسيرة الإصلاح والتنمية وإبقاء البلاد بعيدة عن نظام الحكومات الائتلافية التي ألحقت بالبلاد ما يكفي من الضرر وقطعت الطريق على إيصال تركيا إلى لائحة الدول العشر الأقوى اقتصاديا في العالم.
قيادات كثيرة في العدالة والتنمية تعض على أصابعها بعدما فتحت الطريق بالإجماع أمام وصول أحمد داود أوغلو قبل 6 أعوام لمنصب رئاسة الحزب والحكومة بعد انتخاب أردوغان رئيسا. الهدف وقتها كان قطع الطريق على عبد الله غل، لكن الثمن كان باهظا اليوم وهم يتابعون القيادي الذي اختاروه يجلس في صفوف المعارضة وينتقد الحزب وأردوغان من دون هوادة. الحالة تنطبق على الوزير السابق علي باباجان وغيرهم أيضا من القيادات المعروفة في صفوف العدالة والتنمية. لا أحد يريد التوقف عند طرح السؤال حول أسباب ما جرى وكيف وصلت الأمور إلى هذه النقطة من التباعد والتوتر والتصعيد بل الهدف هو تصفية الحسابات وتلقين الدروس.
بعد قليل سنبدأ في الداخل التركي نقاشات العلاقة بين الحزب الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية.
سنبحث أكثر عن إجابة لتساؤل من الذي سيضع قبلة الحياة “على جبين حزب العدالة والتنمية هذه المرة لإخراجه من ورطة استطلاعات الرأي الكثيرة التي تلتقي عند تراجع أصواته لصالح تكتل أحزاب المعارضة؟ فعلها رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي في السابق لكن الدعم الذي يقدمه من الخارج لا يكفي كما تقول الكثير من الأرقام، إذا ما صدقت التوقعات. فأصوات حزب بهشلي عند أول انتخابات تذهب إليها البلاد لم تعد “بيضة القبان” والفرصة المجانية التي حصل عليها العدالة والتنمية بقوة دفع من خارج الحزب توفر له الأغلبية البرلمانية اللازمة كما تقول قيادات المعارضة التركية. بهشلي في نظر المعارضة وبسبب انحيازه لسياسة الرئيس أردوغان والحزب الحاكم هو الذي عطل فرصة إزاحة الحزب عن مقعد الحكم، واحتمال وصول تحالف المعارضين إلى السلطة في انتخابات الأعوام الأخيرة وهو يدفع ثمن مواقفه هذه اليوم.
لكن العدالة والتنمية يستفيد من ورقة أنه يعرف أكثر من غيره صعوبة بقاء المعارضة موحدة حتى ولو فازت في الانتخابات المقبلة. فهي ستعاني من مشكلة تقديم مصالحها الحزبية على فرص توحدها لإدارة شؤون البلاد، وإرسال حزب العدالة والتنمية إلى موقع المعارضة حتى ولو امتلكت الأغلبية البرلمانية المطلوبة. تجربة إيصال مرشحها إلى رئاسة البرلمان قبل سنوات وقرار حزب الشعوب الديمقراطية المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بمرشحه المستقل خير دليل على ذلك. حتى ولو تغير المشهد السياسي والحزبي بعض الشيء في هذه الفترة وحتى ولو كان موقف حزب الشعب الجمهوري اليساري العلماني أكثر ليونة وبراغماتية في العلاقة مع حزب الشعوب، إلا أن أحزابا أخرى في المعارضة وبينها حزب “إيي” الذي تقوده ميرال أكشنار لا يريد خلال التقاط الصور التذكارية أن يكون في المربع نفسه مع حزب الشعوب الديمقراطية المحسوب على الصوت الكردي في تركيا، والمتهم بعدم تخليه عن دعمه السياسي لمجموعات حزب العمال الكردستاني. فمن الذي سيوحد المعارضة غير الأخطاء التي يرتكبها الحزب الحاكم؟
من الممكن قبول مسألة تراجع أصوات حزب العدالة والتنمية أو شعبيته في هذه الآونة لكنه ما زال الحزب الأول والأقوى في المعادلات السياسية التركية. قد لا يكون هناك مشكلة أيضا في التجديد الرئاسي لأردوغان فقواعد الحزب لن تتخلى عن دعمها له في الانتخابات الرئاسية المقبلة كعربون وفاء حزبي وسياسي وحظوظ فوزه ما زالت مرتفعة. لكن المسألة غير مضمونة بالنسبة لحزبه وهي ستتحول إلى مشكلة أكبر بالنسبة للعلاقة الثلاثية بينهم في حال وصول المعارضة إلى الأغلبية البرلمانية. لذلك فإن الخطأ الأكبر الذي سيرتكبه أردوغان وحزبه في هذه الآونة الحساسة والصعبة التي يمر بها الداخل التركي سيكون محاولة إزاحة أي من رؤساء بلديات المعارضة التي يسيطر عليها الشعب الجمهوري بقرارات إدارية كما حدث في العديد من مدن جنوب شرقي تركيا مع حزب الشعوب الديمقراطية، وولدت ردود فعل عكسية عند كل انتخابات كانت تجري هناك. الصناديق هي من ينبغي أن يقرر وحزب العدالة الذي حملته الصناديق قبل عقدين وسط مفاجأة سياسية كبيرة لن يتحمل ردة فعل شعبي وسياسي مشابهة لما جرى قبل 3 أعوام في انتخابات بلدية إسطنبول التي اعترض عليها وكانت نتائجها الجديدة أكثر إيلاما.
حقيقة أخرى تتطلب تعامل الحزب الحاكم معها بجدية وحسم وهي أن هزيمة حزب العدالة والتنمية في انتخابات حزيران 2015 تحولت سريعا إلى درس سياسي وحزبي استفاد منه عندما لجأ إلى عملية النقد الذاتي والتغيير الحزبي الواسع واعتمد أسلوب الحذر والابتعاد عن إطلاق المواقف التصعيدية والاستفزازية ضد أحزاب المعارضة وقياداتها مما منحه الأغلبية بعد أقل من عام واحد فقط في انتخابات مبكرة جديدة. هذا ما لم يفعله الحزب حتى اليوم سواء في استخلاص دروس الانتخابات المحلية التي جرت قبل 3 أعوام وتلقى فيها ضربة قوية أو في مسألة ضرورات مراجعة شكل النظام الرئاسي الجديد الذي يحتاج إلى قراءة عمودية وأفقية تنتظر منذ أشهر لكن من دون نتيجة حتى اليوم.
الانتخابات المقبلة المقررة في منتصف عام 2023 امتحان حقيقي للحزب الحاكم ليس لأن المعارضة تنجح في تطوير برامجها وخطابها وطروحاتها بل لأنها استفادت من أخطاء حزب العدالة في الأعوام الأخيرة. ومشكلة الحزب الأولى أن شعبيته تتراجع بينما يحافظ أردوغان على دعم القواعد له. مشكلته الأخرى صعوبة تفاهمه مع حزب آخر في المعارضة إذا ما فشل حزب الحركة القومية في تجاوز حاجز العشرة بالمئة الانتخابي، ولم يتم تعديل قانون الانتخابات عبر تخفيض هذه النسبة. المشكلة الثالثة هي تجديد صفوفه وقياداته في المرحلة المقبلة للخروج من أزمة تراجع أصواته وشعبيته وتحسن من وضعه كما فعل مؤخرا في التعامل مع ملفات خارجية خفضت نسبة التوتر مع الدوائر المحيطة بتركيا.
المعارضة التركية لا تملك الحكاية التي تمكنها من إقناع الناخب بدعمها حتى اليوم. هي تعتاش على أخطاء الحزب الحاكم في الداخل والخارج. أردوغان بدأ في الأشهر الأخيرة يتنبه إلى ضرورة إسقاط هذه الورقة من يدها ويتحرك على هذا الأساس فهل سيكفيه ذلك لاسترداد ما فقده حزبه من شعبية في العامين الأخيرين؟
المعارضة تتطلع لإزاحة حزب العدالة لأنها تريد العودة بالبلاد إلى النظام البرلماني مرة أخرى، فهل يكون لها ذلك؟ الإجابة عند أردوغان لمعالجة الثغرات والمشكلات القائمة في النظام الرئاسي وتطبيقه وإقناع الناخب بذلك، وهو سيقدم على خطوات بهذا الاتجاه طالما أنه قبلاً فعل ذلك في ملفات السياسة الخارجية وأعلن عن قبوله المواجهة في ملفات الاقتصاد والغلاء والتضخم.
تذكرنا مرة أخرى قصة تمل ودورسون الإخوة الأعداء في روح النكتة التركية. حين استدعى الضابط دورسون الجندي تمل ليسخر منه: كيف ستتصرف إذا ما ظهر العدو أمامك بشكل مفاجىء؟ قال: أطلق النار وأقتله. وتابع دورسون: وإذا ما هاجمك واحد من الخلف أيضا في الوقت نفسه، أجاب: أحاول قتل الأول وأستدير إلى الثاني. واستمر دورسون وإذا ما هبط جندي ثالث من الجو ورابع خرج من تحت الأرض ماذا ستفعل؟ غضب تمل وهو يقول: ألا يوجد جندي آخر يحارب على الجبهة غيري؟ أهم الأوراق التي يملكها الرئيس التركي في جيبه هي ورقة المعارضة التركية المشتتة التي تعتاش على أخطاء الحزب الحاكم، وتقتنص فرص الاختراق لتسجيل مواقف سياسية داخلية وخارجية فهل يفرط بمثل هذه الورقة الثمينة؟