التاريخ يعيد نفسه. كل الدول استقرت في مواقعها التي كانت قبل مائة عام، وتحاول الوصول إلى حدودها التي كانت قبل مائة عام. الجيل الإمبراطوري يعود. البلدان ذات التراث القوي والمطالبات الكبيرة آخذة في الصعود. إن خريطة القوة في العالم تتغير بشكل كبير. ويمكننا أن نعيد تعريف القرن الحادي والعشرين للدول من خلال هذا الاتجاه.
دُمر النظام الذي تم تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية. يجري إعادة تشكيل القوى المركزية في العالم. وللمرة الأولى منذ قرون، يواجه الغرب تهديدات هائلة من خارج جغرافيته. ليس لدى الغرب أي وسيلة لبناء نظام عالمي بمفرده مرة أخرى. وسيؤدي ذلك إلى حدوث تصدعات كبيرة، وتغييرات في المحور، وإنشاء مناطق صراع إقليمية خطيرة جدًا.
لا يوجد عذر لاحتلال أوكرانيا.
لا يوجد تهديد لروسيا.
ولكن حاذروا:
العالم لم يعد ذلك العالم بعد الآن…
إن هجوم روسيا على أوكرانيا يدور حول هذه التغييرات. لقد احتلت روسيا علنًا دولة ذات سيادة. في العادة، لا يمكن أن يكون هناك عذر أو مبرر لذلك. ولكن هذا نذير بظروف عالمية جديدة. لقد فُتحت أبواب عصر الجنون. ويمكننا أن نقول بوضوح إن أولئك الذين اتحدوا ضد روسيا اليوم سيفعلون الشيء نفسه غدًا. لأن العالم لا يمكن قراءته بالأنماط القديمة. ولن تقيد أي دولة نفسها بالأنماط القديمة.
وعادة ما يكون الوضع كالتالي: لم يكن هناك تهديد مباشر يستهدف روسيا من الأراضي الأوكرانية. ولذلك، لا يوجد مبرر سياسي أو قانوني للاحتلال. وكدولة ذات سيادة، يمكن لأوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو أي تحالف إذا رغبت بذلك. وإن تصور هذا الانضمام على أنه تهديد لدولة أخرى لا يمكن أن يكون مبررًا للاحتلال. ولو شنت جماعات إرهابية أو عناصر أخرى من داخل أوكرانيا هجومًا مباشرًا على روسيا، لكانت تلك القضية مثيرة للجدل.
الحرب في أوكرانيا
ولكن الصراع بين الولايات المتحدة-أوروبا وروسيا
قامت الولايات المتحدة وبريطانيا، قبل نشوب الحرب، باستفزاز روسيا في عملية الاحتلال هذه. وهناك أسباب وإمكانيات كثيرة في هذا الموضوع. ولكن من الواضح أن كلا البلدين منخرطان في مواجهة مع روسيا، ويحاولان ذلك من خلال أوكرانيا. ومن الواضح أن محاولة الحرب الأهلية التي حاولوا القيام بها في كازاخستان كانت تصب بنفس النية.
وهنا التهديدات وردودها ليست بين روسيا وأوكرانيا، بل بين روسيا والولايات المتحدة-بريطانيا-أوروبا. أوكرانيا ليست سوى ساحة الصراع الأولى في هذه المواجهة. وسيكون هناك بالتأكيد بلدان جديدة قادمة.
الحرب الأوروبية بدأت الآن.
العدوان الروسي بدافع الخوف!
على الرغم من أن الحرب في أوكرانيا، إلا أن الصراع الدائر هو بين روسيا وأوروبا- الولايات المتحدة. لذلك، يمكننا اعتبار أن العقوبات الغربية الثقيلة والضغوطات وعزل روسيا عن العالم والشلل الاقتصادي، وبدء العمليات السرية داخل أوكرانيا، وتزويدها بالسلاح علانيةً، وإغلاق المجال الجوي أمام روسيا، مرحلة أولى من الحرب بين الشرق والغرب، بين أوروبا وروسيا.
جاء العدوان الروسي بدافع الخوف. ويدرك بوتين أن بلاده سوف تتقسم للمرة الثانية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وأن الغرب لديه مثل هذه الخطة. لهذا السبب يحاول تجنب هذا الاحتمال بالتهديدات والهجمات بدلًا من الدفاع. وكل ما نراه من التوسع الروسي في السنوات الأخيرة هو جهود لتأخير ومنع هذه النهاية الرهيبة.
ستستمر هذه الحرب لفترة طويلة
في أي البلدان ستنتشر؟
هذه الحرب ستستمر لفترة طويلة وإذا فشلت روسيا في إتمام احتلالها بسرعة فسوف تواجه كابوسًا كبيرًا. بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية، فإن الوضع سوف يزعزع استقرار روسيا. وفي الوقت الذي يسعى فيه بوتين جاهدًا لتجنب “الانهيار الثاني”، فإن قراراته سوف تسرع من “الانهيار الثاني”.
الحرب المطولة ستنقل مناطق الصراع إلى خارج أوكرانيا. وستتشكل جبهة من بحر البلطيق إلى بحر إيجة بين الشرق والغرب عبر لاتفيا وليتوانيا ورومانيا وبلغاريا.
حلف الناتو “حلقات المقاومة”
ستنتشر إلى أوروبا الشرقية
صراع القوة المركزية وحسابات تقاسم السلطة الجيوسياسية التي شهدناها في الشرق الأوسط منذ سنوات نشهدها الآن في البحر الأسود وفي الشمال. وصلت الصراعات إلى أعتاب أوروبا للمرة الأولى، والتي كانت تجري لسنوات بعيدًا عن الولايات المتحدة وأوروبا
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الحرب الأوروبية. الحرب الأوكرانية هي الحرب الأوروبية. لا نعرف كم من الوقت سيستمر الدرع الذي بنوه في أوروبا الشرقية، وكم من الوقت سيحمي أوروبا الغربية. ولكن اعتبارًا من اليوم، يمكننا أن نقول إن أوروبا بدأت المعركة مباشرة مع روسيا.
سيشار إلى حلقات المقاومة التي أسسوها في أوكرانيا باسم الحرب الأوروبية الروسية. وستتواجد هذه الحلقات في جميع البلدان الواقعة على طول خط المواجهة بين الشمال والجنوب. إن حرب أوروبا قد تؤدي إلى المزيد من تحييد الغرب المتدهور منذ فترة طويلة. وعلى الرغم من أنهم يبدون متحدين ضد روسيا اليوم، إلا أنهم لن يتمكنوا من الحفاظ على اتحادهم لفترة طويلة. قريبًا سينهار التحالف المتشكل ضد روسيا داخل أوروبا.
الولايات المتحدة وبريطانيا يحاولون إقحام تركيا في الحرب
بالنسبة لتركيا، هذه الحرب ليست حرب أوكرانية، بل حرب البحر الأسود. بعد سنوات من الكفاح في الجنوب، ستكافح تركيا الآن تهديدًا جديدًا في الشمال، وهو عدم الاستقرار الناجم عن الحرب الغربية الروسية.
وتحاول الولايات المتحدة وبريطانيا جر تركيا إلى هذه الحرب بسرعة. ويفسر ذلك باللغة السياسية التي تستخدمها أوكرانيا. ويخطط الغرب لتقديم تركيا كورقة رابحة ثانية إذا لم يستطع الغرب تركيع أوروبا الشرقية ودول البلطيق وروسيا. هذه المرة يعملون على إشعال الحرب التركية الروسية عبر البحر الأسود، التي يحاولون إشعالها في سوريا.
يجب أن لا يُسمح أبدًا في نشوب حرب تركية روسية
ومن أجل الدفاع عن أوروبا، لا ينبغي أن تقع تركيا في وضع بلدان مثل أوكرانيا وبولندا. لا ينبغي أن تقع في هذه الفئة، لأن تركيا ليست قاتل الغرب المأجور. يمكن لتركيا العمل مع التحالف الغربي ولكنها تتخذ مواقفها وفقًا لوزنها المحدد.
وبغض النظر عما يحدث، لا ينبغي أن تكون هناك حرب بين تركيا وروسيا. لا ينبغي أن تكون تركيا دولة جبهة للولايات المتحدة وبريطانيا. إن استقرار الغرب في البحر الأسود سيجبر تركيا على القيام بذلك. ولكن لندع أوروبا تدافع عن نفسها. لندعها تقود نفسها إلى الجبهة. لقد انتهى عصر الازدهار بإشعال النار في الأمم الأخرى. يجب ألا تدفع أمتنا ثمن دفاعها عن أوروبا.
إذا أركع الغرب روسيا
سيفعل نفس الشيء مع تركيا
حتى لو كانت تركيا دولة في حلف شمال الأطلسي(الناتو)، فهي تعرف بأنها تهديد مستقبلي للغرب. ونحن نعلم الآن أن الغرب ينظر إلى تركيا على أنها تهديد، على الرغم من أنها حليفة. لقد شاهدنا ذلك بوضوح في سوريا. وفي بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط. شاهدنا ذلك في قره باغ وفي مسألة منظمة بي كاكا الإرهابية وتنظيم غولن الإرهابي. قد رأينا أن كل هذه التهديدات مصدرها الولايات المتحدة وأوروبا.
إن تعزيز تركيا لنفوذها المتزايد يخيف الغرب. لهذا السبب ينفذون خطة إيقاف تركيا في كل منطقة. ولهذا السبب أسسوا جبهة سياسية داخلية وصمموها لتكون واجهة للاحتلال الداخلي.
وإذا استطاع الغرب إركاع روسيا ، فسوف يتحول مباشرة إلى تركيا كخطوة ثانية. وسوف يتجه لتقليص وتحجيم تركيا. سوف يتولى الوصاية مجددًا. لن يصمم السياسة في الداخل فحسب، بل سيصمم تركيا من جديد. إن التهديد الكبير الذي يواجهنا ينتظرنا هنا في الداخل.
العقل التركي، عقل الإمبراطوريات، سيتجاوز هذه الأزمة
إن أمر بوتين بـ”وضع قوات الردع النووي في حالة تأهب قصوى للحرب”، مؤشر على أن تلك الأشياء معروفة إلى أين ممكن أن تتجه. إنها ليست مجرد خدعة. روسيا تعتبر في حساباتها أن التهديد الذي تتعرض له سيصل إلى نقطة الإبادة. وينبغي على تركيا أن تقوم بحساباتها وفقًا لذلك.
الحرب بين تركيا وروسيا ستُخرج كلا البلدين من المعادلة العالمية. ستتقسم كلا البلدين. وهكذا سيتخلص الغرب من تهديدين في نفس الوقت.
دعونا فقط لا نفعل ذلك، لنمنع حدوثه، وهذا يكفي. يجب على تركيا أن تستخدم صراعات القوى هذه وفقًا لاحتياجاتها الخاصة. يجب أن تفعل كل ما يتطلبه الأمر في الجنوب والغرب والشمال. العقل التركي، عقل الإمبراطوريات، سيظهر حكمة كبيرة هنا.
لننتظر…
عرض التعليقات
الأزمة الروسية الأوكرانية بدأت بسبب تعنت الغرب وتقدم الناتو شرقا وتغيير الطبقة الحاكمة الأوكرانية انتمائها نحو الغرب ، أوكرانيا هي خاصرة روسيا ولن تسمح لها بأن تخرج من التبعية الجيوسياسية الروسية ، روسيا تعلن بأن متطلباتها لها الأولوية وأن صوتها يجب أن يسمع ولو بالقوة لأنها وصلت لمرحلة خطرة تفوق القدرة على الاحتمال ، ستشجع الخطوة الروسية الصين على ضم تايوان بالقوة مستقبلاً وميلاد حلف الشرق بديلاً عن حلف وارسو ، بالنسبة لتركيا يجب أن تكون محايدة قدر الإمكان للحفاظ على مصالحها وإتباع سياسة حذرة مع روسيا والمشكلة الأوكرانية جزء من لعبة التوازن الجيواستراتيجي بين الشرق والغرب وستتوسع في الأعوام القادمة