استضافت مدينة إسطنبول قبل أيام جولة جديدة من المفاوضات الروسية الأوكرانية على مستوى الخبراء والدبلوماسيين في محاولة لتسجيل اختراق سياسي تركي وإنجاح جهود أنقرة على طريق الحلحلة في ملف الأزمة الأوكرانية. نجحت تركيا في ذلك إلى حد ما على ضوء التصريحات الإيجابية المتفائلة الصادرة عن طرفي النزاع والتي جاءت هذه المرة بعكس ما سمعناه في أنطاليا في العاشر من الشهر المنصرم بعد القمة الثلاثية المنعقدة بين وزراء خارجية الدول الثلاث. وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو كان أكثر حماسا بعد الاجتماع الذي نجح في “تسجيل تقدم هو الأكثر أهمية منذ بدء المباحثات الروسية الأوكرانية قبل شهر وحتى اليوم” كما قال أمام العدسات في “دولمه بهشه”.
يعتقد البعض أن هدف تركيا من خلال الدخول على خط الوساطة والتهدئة بين روسيا وأوكرانيا هو تعزيز فرصها الاستراتيجية في العلاقات مع البلدين بعد انتهاء الأزمة بدور تركي أكثر فاعلية وتأثيرا. ويعول البعض الآخر على رهان تركي في تسجيل اختراق إقليمي أكبر في لعبة التوازنات الجديدة التي ستظهر إلى العلن بشقها السياسي والأمني والاقتصادي ما إن تسحب الأسلحة إلى العنابر والمخازن وتتم الصفقات السياسية بين البلدين. كلها احتمالات منطقية قابلة للنقاش لكن الهدف التركي هو أبعد وأهم من ذلك بكثير.
أنقرة في وضع صعب وحرج ودقيق نتيجة منظومة العلاقات السياسية والاقتصادية التي بنتها في الأعوام الأخيرة بين الغرب الأميركي والأوروبي من جهة وبين روسيا وإيران والصين من جهة ثانية. وهي تعرف أن الهيكل الحساس الذي شيدته قابع فوق رمال متحركة قد تطيح بكل شيء إذا ما تحولت المواجهات إلى غربية روسية تلزمها بقرار الوقوف إلى جانب طرف على حساب الطرف الآخر وهو ما ينبغي التعامل معه بجدية وسرعة وحزم. الداخل التركي يتحدث عن سياسة تركية حيادية لا بد منها أمام سيناريو من هذا النوع، لكن الحقائق والمعطيات تقول شيئا آخر وهو استحالة وقوف أنقرة على مسافة واحدة من الطرفين لأنهما لن يمنحاها مثل هذه الفرصة. أميركا قادرة على التأثير في ملفات ثنائية وإقليمية كثيرة وروسيا أيضا بمقدورها ذلك. تحريك جبهات حوض البحر الأسود وشرق أوروبا والبلقان قد تكون كافية لإقحام أنقرة في مأزق الخيار الصعب بين حليف وشريك. كيف وصلت الألغام التي ألقيت في مياه البحر الأسود بمثل هذه السرعة إلى منطقة المضائق التركية رغم أن الخبراء كانوا يتحدثون عن فترة زمنية لا تقل عن 3 أسابيع؟ هل هناك من نقل الألغام وألقى بها على مقربة من المياه التركية في محاولة لتوتير العلاقات التركية الروسية والتركية الأوكرانية؟
أنقرة متمسكة بتفاؤلها وهي تعلن أن اجتماعا جديدا على مستوى وزراء الخارجية الثلاث سيعقد خلال الأسبوعين المقبلين محملا بنتائج أكثر عملية وإيجابية، تتوج بلقاء قمة يجمع الرئيسين الروسي والأوكراني. لكن العقدة هي في التفاصيل التقنية الدقيقة التي تطول المفاوضات حولها في مسائل حساسة مثل مستقبل القرم وحيادية أوكرانيا واختيار الطرف الضامن والمهام التي ستمنح له. العقبة الحقيقية هي الموقف الأميركي الذي يقلق الجميع حول ما بعد التفاهمات الروسية الأوكرانية. كيف سيتصرف الغرب بعد ذلك وهل سيرفع عقوباته عن روسيا ويلتزم بالتفاهمات التي يتم الوصول إليها؟ أم هو سيواصل التصعيد ومطاردة الكرملين ومحاصرته بجملة من المطالب والقرارات الدولية المتعلقة بالتعويضات واللجوء والاعتذار والمحاكمات التي قد تطول العشرات من السياسيين والعسكريين ويكون هدفها النهائي إشعال الداخل الروسي؟
صحيح أن أنقرة تملك أكثر من غيرها فرص التحرك على خط الوساطة الروسية الأوكرانية لوقف الحرب والمساهمة في صنع السلام بين البلدين. وصحيح أيضا أن ما يمنحها مثل هذا الدور هو علاقاتها المميزة مع طرفي الصراع. كما أن احتمال صعود الدور التركي الإقليمي في البحر الأسود والقوقاز وأسيا الوسطى كبير جدا في حال نجحت الوساطة التركية، وهو ما يدفع العواصم الغربية للتمسك بتركيا إقليميا أكثر فأكثر تماما كما كانت الأمور في مطلع الخمسينيات وأثناء لعبة الحرب الباردة ونظام القطبين. لكن تقدم الأمور باتجاه معاكس غير ما تشتهيه السفن التركية في حوض البحر الأسود بين الاحتمالات كذلك. وهو ما يعني تهديد مصالحها السياسية والأمنية، وتعريض العشرات من عقود ومشاريع الاستثمار الموقعة مع البلدين للخطر إذا ما طالت الأزمة وتعقدت أكثر من ذلك. لم تلتحق أنقرة بقرارت العقوبات الغربية على روسيا، لكن هذه الخطوات كان لها الكثير من الارتدادات السلبية على تركيا ومصالحها التجارية مع الطرفين. فكيف ستكون علاقاتها على خط روسيا – الغرب إذا ما تمسكت أميركا بلعب الأوراق الاستراتيجية التي منحتها لها موسكو بعد غزوها لأوكرانيا؟
المعضلة الأخرى التي تقلق أنقرة وتنتظر حلا يبدو أن بعض العواصم الغربية هي من يعرقله، تتعلق بمسألة اختيار مجموعة الدول الضامنة حيث تشير المعلومات الأولية إلى أن التفاهم الأقرب هو تشكيلة من مجموعة دول تشمل الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين) إلى جانب تركيا وألمانيا وإسرائيل وإيطاليا وكندا. وهي في غالبيتها دول أطلسية مما يؤكد رواية أن أوكرانيا لن تلتحق بالحلف لكن الأخير سيلتحق بها. بين مهام هذه المجموعة بشكل منفرد أو جماعي، العمل على منع أي تهديدات ضد أوكرانيا عبر اتخاذ الخطوات الضرورية لمنع ذلك من خلال تحديد ما إذا كان مجلس الأمن الدولي سيتدخل أو سيتم إرسال قوات حفظ سلام أو سيتم فرض حظر جوي. هي كلها مسائل تقنية تحتاج إلى توصيفات قانونية ولغوية دقيقة. إلى جانب البحث عن الإشراف السياسي والدبلوماسي لإدارتها حيث من المحتمل أن تترك هذه المسألة إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة للإشراف عليها بقرار يتخذ داخل مجلس الأمن الدولي. لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها والتي تقلق أنقرة أكثر من غيرها هي أن الكرة أولا وأخيرا في ملعب واشنطن وموسكو ليتفاهما على صيغة تسوية سياسية حول المسائل الخلافية بطابع استراتيجي بينهما في منطقة نفوذ أمني وسياسي واقتصادي حيوي لها.
مشكلة أنقرة بعد الآن ليست مع موسكو وكييف بل مع واشنطن وبعض العواصم الأوروبية التي قد لا تعرقل حصول تفاهمات باتجاه وقف الحرب والوصول إلى تسوية سياسية روسية أوكرانية. بل بتمسك إدارة بايدن بمواصلة تصعيدها ضد بوتين وفريق عمله في المحافل الإقليمية والدولية خصوصا أن إدارة البيت الأبيض لا تريد التفريط بالفرصة التي منحها لها الكرملين عبر عملية الغزو التي أعطى أوامرها والتي تسببت بمأساة إنسانية كبيرة وتدمير المدن الأوكرانية ومحاولة قلب التوازنات القائمة في حوض البحر الأسود منذ 3 عقود.
برزت قبل أيام في إسطنبول فسحة أمل جديدة حول احتمال نقل المواجهات الروسية الأوكرانية من الجبهات والميادين إلى التفاوض حول طاولات الحوار. أنقرة تسعى للتفاهمات الخطية المدونة التي تلزم الطرفين وهو إنجاز سياسي ودبلوماسي كبير. السؤال يبقى حول كيف ستتصرف تركيا في المرحلة الثانية من الأزمة الجاهزة بقرار غربي للتوسع والانتشار مثل كرة الثلج ما إن تنتهي المرحلة الأولى؟
اعتاد العرب أن يقولوا عند تأكيد عدم حدوث الشيء واستحالة وقوعه، “إن هذا الأمر من رابع المستحيلات”. وهذا يعني أن هناك مستحيلات ثلاثة تسبق هذا الرابع. طعام الغولة وانبعاث العنقاء والخل الوفي. المعادل لذلك في الحياة اليومية للأتراك هو أن “الدب الجائع لا يرقص”. أميركا وبريطانيا وكندا بين الدول الضامنة التي تعطي روسيا ما تريده في القرم والبحر الأسود وشرق أوروبا. هذا رابع المستحيلات.
الأزمة الأوكرانية هي من صنع الغرب وذلك بتوسع حلف الناتو شرقا واستفزاز روسيا ولطالما حذر بوتين من تجاهل المطالب الأمنية لروسيا طيلة 15 عاما ، المشكلة أن التسوية السياسية بين روسيا والغرب والأخير يريد إطالة أمد الصراع لاستنزاف روسيا وتجد أنقرة نفسها في وضع حساس لأن أي تحرك خاطئ سيكلفها الكثير ، الدبلوماسية التركية ماهرة في التعامل مع التناقضات وسياسة الحياد مجدية حتى الآن وإذا لم تنجح فيجب إلتزام المصالح التركية