هل عادت تركيا لسياسة “تصفير المشاكل”؟
أعاد مسار تقارب تركيا مع عدد من القوى الإقليمية للأذهان والنقاش السياسي سياسة “تصفير المشاكل” التي كانت تبنتها مع حكم العدالة والتنمية في 2002 وحتى الثورات العربية في 2011.
كان أحمد داود أوغلو، الذي لقب لسنوات بمهندس السياسة الخارجية التركية، نظّر للأمر في كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي”، من باب أن الدولة التي تعيش مشاكل وأزمات وتوتراً مع معظم جاراتها لن تحظى باستقرار ولا تنمية وستبقى مستنزفة، وهو حال تركيا خلال سنوات كتابة الكتاب ما قبل عهد العدالة والتنمية.
دعا الرجل إلى انتهاج بلاده سياسة “تصفير المشاكل” مع دول الجوار على وجه الخصوص، بما يعني تقليل الملفات الخلافية والأزمات معها إلى الحد الأدنى، وبما يمكن أن يشكل أرضية تساعد على فكرة التعاون وفق مبدأ “الربح للجميع” وبما يشكّل كذلك إضافة للقوة الناعمة التركية في المنطقة والعالم.
نجحت هذه السياسة إلى حد كبير على مدى سنوات طويلة، فتعدلت العلاقات العدائية بينها وبين دول مثل إيران والعراق وسوريا، لتتحول أنقرة في 2010 إلى وسيط بخصوص المشروع النووي الإيراني، وتتعاون مع العراق ضد العمال الكردستاني، وتتحول العلاقات مع دمشق من شفا الحرب عام 1998 إلى فتح الحدود والتفكير بتأسيس منطقة تجارة حرة تجمعها مع لبنان والأردن. ويضاف لذلك مسارات الحوار مع اليونان الخصم التقليدي لتركيا، والانفتاح على أرمينيا، وتطوير العلاقات مع روسيا، وغير ذلك.
في مناخ مناسب لها في حينه، سارت هذه السياسة بنجاح حتى عام 2011 الذي شهد زلزالاً سياسياً في المنطقة تمثل بسقوط بعض الأنظمة القوية في دول مثل مصر وتونس وليبيا وتحول الثورة السورية إلى العسكرة. بكلام آخر، تحولت المنطقة من “صفر مشاكل” إلى “صفر هدوء”، لتتحول تركيا بدورها نحو سياسة خارجية نشطة مبادِرة متخلية عن تحفظها السابق، ما أدخلها في قلب الأزمات وعمق الاستقطاب في المنطقة.
بعد سنوات من التوتر والخلافات مع عدد من القوى العالمية والإقليمية وحديث أردوغان عن “العزلة القيّمة” التي عانتها بلاده بسبب مواقفها من الثورات وبعض الأنظمة الإقليمية، عادت تركيا في 2016 لترفع شعار “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم”. كان ذلك يعني استدارة في السياسة الخارجية تمثلت في تخفيف حدة التوتر مع عدد من الأطراف، لكن ولأسباب عديدة لم يكتب لهذا المسار النجاح أو الوصول للنهاية.
اليوم، ومنذ بداية 2021 تسير أنقرة في مسار مشابه ولكن أسرع، تحديداً لأنه قوبل بنفس التوجه لدى عدد من القوى الإقليمية، فخاضت معها جولات حوار بهدف تدوير زوايا الخلاف ونسج مسارات تعاون، وكانت النتائج الأسرع والأبرز مع الإمارات العربية المتحدة، أحد أبرز خصومها في السنوات القليلة الماضية. مسارات مشابهة بدأتها تركيا مع كل من مصر و”إسرائيل” واليونان وأرمينيا، وما زالت تؤكد أنها ترغب بتحسين العلاقات مع السعودية. فهل كل ذلك هو عودة من تركيا لسياسة “تصفير المشاكل”؟
كانت سياسة تصفير المشاكل مبنية على رؤية لتخفيف التوتر وتجنب الخسائر للطرفين ولذلك فقد بنيت على مبدأ الربح للجميع وقبلتها الأطراف الأخرى من تركيا وَسَعَتْ لها بالقدر ذاته، بينما في المسار الحالي تبدو الأخيرة أكثر حرصاً من الدول الأخرى على تطوير العلاقات وتحسينها
رأيُنا أنه من الصعب إطلاق نفس التسمية على المسار الحالي، بسبب اختلافه عن المسار السابق من عدة زوايا. ففي المقام الأول، كانت سياسة “تصفير المشاكل” استراتيجية وسياسة ثابتة مبنية على تنظير مسبق وواضح، بينما يبدو المسار الحالي أقرب للتكتيك المؤقت المدفوع بسياقات وتطورات محلية وإقليمية ودولية سبق تناولها في مقالات سابقة. كما أن السياسة السابقة كانت نهجاً راسخاً تتبناه تركيا، بينما المسار الحالي ظرفي ومنطلقاته بالأساس الرغبة في إجراء الانتخابات المقبلة في الظروف الأمثل.
كما أنه من المهم الإشارة إلى المتغيرات التي طرأت على البيئة الإقليمية، حيث تجنبت تركيا حينئذ الانخراط في أي محاور في المنطقة وتمتعت بعلاقات طيبة مع مختلف الأطراف، بينما هي الآن في قلب الاستقطاب وفاعل رئيس فيه. ومن جهة أخرى، فقد كانت البيئة الإقليمية في السابق أكثر تقبلاً للأمر من الآن لأسباب مفهومة.
وأخيراً، ولعله الأهم، كانت سياسة تصفير المشاكل مبنية على رؤية لتخفيف التوتر وتجنب الخسائر للطرفين ولذلك فقد بنيت على مبدأ الربح للجميع وقبلتها الأطراف الأخرى من تركيا وَسَعَتْ لها بالقدر ذاته، بينما في المسار الحالي تبدو الأخيرة أكثر حرصاً من الدول الأخرى على تطوير العلاقات وتحسينها، وبدت أكثر لهفة واستعجالاً لها، وقدمت بين يدي ذلك “تنازلات” وإجراءات بناء ثقة أكثر من غيرها، بينما تبدو الأطراف الأخرى أكثر تمهلاً وحذراً وتمنعاً.
في الختام، لئن تشابه المسار الحالي للتقارب مع بعض القوى الإقليمية مع سياسة “تصفير المشاكل” السابقة، إلا أنه يبدو مختلفاً عنها بشكل واضح من حيث الدوافع والمنطلقات والبيئة الإقليمية وكذلك الأسلوب والطريقة. ولعل ذلك ما يدفع للتقدير بأن مآلاته قد تكون كذلك مختلفة، أو على أقل تقدير جزئيةً مقارنة مع منجزات الحقبة السابقة التي طبقت فيها هذه السياسة في بيئة وسياق وزمن مناسبين لها إلى حد كبير.