مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الحاسمة في تركيا والمقررة في حزيران/ يونيو 2023، ومع دخول البلاد في حالة أشبه بالحملات الانتخابية، يتزايد الاهتمام باستطلاعات الرأي المتعلقة بالانتخابات الرئاسية على وجه التحديد، لا سيما أن عدداً لا بأس به من المؤسسات بدأت تنشر نتائج استطلاعات قامت بها مؤخراً.
استطلاعات الرأي المذكورة افتراضية إلى حد كبير، فهي قائمة على فرضية أن يكون الشخص الفلاني (أكثر من مرشح كلٌّ على حدة) هو المرشح المنافس لأردوغان، أو على فرضية أن هناك ثلاثة مرشحين أحدهم عن حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) غير المنخرط رسمياً في أي من التحالفات القائمة.. وهكذا.
هذه الافتراضات، بسبب عدم وضوح أسماء المرشحين المتنافسين على الرئاسة حتى اللحظة، ليست المأخذ الوحيد على شركات استطلاع الرأي في تركيا، بل هناك ما هو أسبق وأعمق وأعمَّ من ذلك. كشخص يتابع الانتخابات التركية بكل أنواعها عن كثب منذ 2009 على أقل تقدير، يمكنني بأريحية القول إن هذه الشركات والمراكز ليست محترفة في عملها ولا دقيقة في نتائجها. ذلك أن بعضها تنقصه التجربة والخبرة، وبعضها الآخر تعوزه الأدوات، وهناك من لا يهتم كما ينبغي بالمعايير العلمية والفنية، وهناك من هو مؤدلج متحيز، وهناك من يصدر نتائج بناء على طلبات ورغبات الممول.. الخ.
إن عددا لا بأس به من هذه الشركات يسعى للتأثير على الرأي العام وصنع توجُّهٍ بدلاً من وظيفته الرئيسة في إظهارهما والتعبير عنهما. والثانية أن نتائج استطلاعات الرأي في عمومها والآن على وجه التحديد؛ تصلح للاستئناس لا للتعامل بجدية ودقة
وهكذا، فإن الشركة التي تقترب توقعاتها من نتائج الانتخابات الرئاسية مثلاً ستكون بعيدة جداً عن توقع الانتخابات البرلمانية، وسنجد أن المركز الذي اقترب من نتيجة العام 2014 مثلاً فشل فشلاً ذريعاً في انتخابات العام 2018، ما يعني بشكل واضح أن “دقة التوقع” في إحدى المنافسات الانتخابية أقرب للصدفة منها للاحترافية العملية، ويؤكد افتقار هذه الشركات في أغلبها للمعيارية والثبات .
وبالتالي نخرج من كل ما سبق بنتيجتين رئيستين؛ الأولى أن عدداً لا بأس به من هذه الشركات يسعى للتأثير على الرأي العام وصنع توجُّهٍ بدلاً من وظيفته الرئيسة في إظهارهما والتعبير عنهما. والثانية أن نتائج استطلاعات الرأي في عمومها والآن على وجه التحديد؛ تصلح للاستئناس لا للتعامل بجدية ودقة، لا سيما حين تتواتر بعض السياقات في أكثر من نتيجة لأكثر من شركة متنوعة الخلفيات والانحيازات .
ومما يزيد في فكرة الاستئناس -لا أكثر- بالنتائج الحالية أن الانتخابات ما زالت على بعد سنة كاملة من الآن، وهي مدة طويلة جداً جداً وفق تقاليد السياسة في تركيا، وقد كان الرئيس الأسبق سليمان دميريل يقول إن “24 ساعة في السياسة التركية مدة طويلة جداً”. كما أن الأسماء التي ستتنافس في الانتخابات المقبلة ما زالت غير معلنة؛ صحيح أن تحالف الجمهور الحاكم أعلن أن مرشحه هو الرئيس أردوغان كما هو متوقع، إلا أن أحزاب المعارضة لم تحسم حتى الآن من هو مرشحها لمنافسته، بل لم تحسم قرارها باتجاه مرشح توافقي أم عدة مرشحين، في ظل خلافات معلنة وأخرى مستترة بين الأحزاب والشخصيات المعارضة.
صحيح أن تحالف الجمهور الحاكم أعلن أن مرشحه هو الرئيس أردوغان كما هو متوقع، إلا أن أحزاب المعارضة لم تحسم حتى الآن من هو مرشحها لمنافسته، بل لم تحسم قرارها باتجاه مرشح توافقي أم عدة مرشحين، في ظل خلافات معلنة وأخرى مستترة بين الأحزاب والشخصيات المعارضة
فهل يعني كل ما سبق ألا نتابع نتائج استطلاع الرأي المجراة في الفترة الراهنة وأنه لا فائدة ترجى منها؟ بالتأكيد ليس هذا المقصود، بل هناك عدة فوائد، منها ما هو محصور في الباحثين والمتابعين من حيث مراقبة النتائج واستنباط دلالاتها والرسائل المتوخاة منها وما قد يعنيه ذلك على المستوى السياسي. ومنها كذلك ما هو مفيد للقارئ العادي أو المتابع من بعيد، وهو قراءة وفهم ما يمكن أن نسميه التوجهات أو السياقات العامة لهذه النتائج، لا سيما حين تتكرر وتتواتر كما قلنا.
من هذه السياقات العامة التي تتفق عليها معظم استطلاعات الرأي صعوبة حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، إذ نكاد لا نقع على استطلاع رأي واحد يعطي أحداً من المرشحين فوق 50 في المائة من الأصوات، ما يعني أن الانتخابات مرشحة وبقوة لجولة إعادة للحسم.
ومنها كذلك أن اسم المرشح الذي سينافس أردوغان (بما في ذلك شخصيته وحزبه وخلفيته) مهمة جداً بل ومحددة في النتيجة، إذ تكاد تجمع استطلاعات الرأي المتنوعة أن زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو ذو فرص أقل من مرشحين آخرين، مثل رئيسَيْ بلديتي أنقرة وإسطنبول منصور يافاش وأكرم إمام أوغلو مثلاً.
ينبغي التعامل مع نتائج استطلاعات الرأي الواردة في الفترة الحالية بكثير من الحذر وقليل من الاستئناس، بل وبالتحفظ على بعضها ربما، فضلاً عن إمكانية الجزم بتوجهات الناخبين ونتيجة الانتخابات المقبلة قبل سنة كاملة من عقد الانتخابات
ومن السياقات العامة، التي يمكن أن تبنى على ما سبق، أن شخصية المرشح وحدها لن تكون الفيصل في الانتخابات، وإنما منظومة التحالفات القائمة لا سيما في جولة الإعادة.
ومنها كذلك، ولعل هذا أهمها، أن نتيجة الانتخابات لن تحسم وفق معادلة رياضية مباشرة وإنما بطريقة معقدة. ذلك أن انخراط أي حزب سياسي في تحالف ما أو دعمه لمرشح بعينه لا يعني بالضرورة أن كل أنصاره سينتخبون ذلك المرشح، لا سيما إن كان من خلفية سياسية وأيديولوجية مختلفة، ويصح هذا الأمر أكثر ما يصح في أنصار حزب السعادة المحافظ والحزبين المنشقين عن العدالة والتنمية: المستقبل والديمقراطية والتقدم.
ولهذا، ختاماً، ينبغي التعامل مع نتائج استطلاعات الرأي الواردة في الفترة الحالية بكثير من الحذر وقليل من الاستئناس، بل وبالتحفظ على بعضها ربما، فضلاً عن إمكانية الجزم بتوجهات الناخبين ونتيجة الانتخابات المقبلة قبل سنة كاملة من عقد الانتخابات ودون تحديد للمرشحين المتنافسين.
بواسطة / سعيد الحاج