نحن نعلم بوجود تصريحات متباينة للمسؤولين الروس في “موسكو” حول “المسألة السورية”، ففي الوقت الذي قال فيه “لافروف” بنفسه: “لا يمكن لتركيا أن تبقى غير مكترثة لما يحدث”، سمعنا من أفواه متحدثين روس آخرين، من قال: ” فليتم نشر قوات دمشق في المناطق التي وضعتموها ضمن أهدافكم”..
لكن كل هذا ليس بالأمر الجلل في الوقت الراهن، لأن الأهم، هي الإهانة التي تلقاها “لافروف” قُبيل زيارته هذه الى “تركيا”، وإنما، كما قال الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”: “لا يجب التقليل من شأن روسيا إن أردنا إقامة السلام بعد انتهاء الحرب”.
فطائرة “لافروف” التي كانت من المفترض أن تتوجه إلى “صربيا” في زيارة رسمية، تم منعها من عبور المجال الجوي لكل من لـ”بلغاريا” و”الجبل الأسود” و”مقدونيا الشمالية”، فرجع بذلك ممثل أحد أكبر القوى في العالم، خاوي الوفاض، في حادثة نادرة الحدوث.
إنّ ما فعلته هذه الدول، لم يكن سوى بطلب أو بتحريض من الدول الغربية، وهي جميعها أساسا أعضاء في “حلف شمال الأطلسي”، لكن “لافروف” قدم اليوم الى دولة منضوية أيضاً في “حلف الناتو”، ليست كأية دولة عادية أخرى، هي دولة تتمتع بقيمة ووزن استراتيجي مهم، وهو ما يدفع الكثيرين للاعتقاد بمرونة الموقف الروسي تجاه العملية العسكري في “سوريا”.
لكن رغم ذلك..
لا بد من الوقوف قليلا على أسباب أهمية وحساسية العلاقة الروسية – التركية
إن الإتجاه الذي قد يذهب إليه كثيرون لسرد تفاصيل العلاقة الروسية – التركية، هو موضوع “الغاز الطبيعي ومحطة الطاقة النووية، المسألة السورية، البحر الأسود، القوقاز، جمهورية قبرص التركية”، إلى جانب “التجارة والسياحة والبحث المالي المشترك”، أضف إلى ذلك “تجارب الطرفين في أستانا وسوتشي وإرث الخيانة في الخامس عشر من تموز” وغيرها الكثير من المواضيع التي لا تقل إحداها أهمية عن الأخرى، كما أننا استطعنا تجاوز معظم القضايا الخلافية التي لم نتفق عليها مع “روسيا” بمنحنا العالم سياسة جديدة في العلاقات الثنائية التي تعتمد على: ” شدّ كلّ منهما للآخر، والسير كتفاً إلى كتف”..
وإنما تشترك جميع وجهات النظر هذه في إدراك قيمة هذه العلاقة.
فنظرتنا إلى العلاقات “التركية – الروسية” من وجهة نظر “روسيا” والظروف العالمية بشكل عام، تجعلنا نتوقع مغادرة وزير الخارجية الروسي لأنقرة وهو يقول دون أي تردد للجانب التركي: “حسنٌ، ليكن كما ترغبون”..
كنت قد كتبت في بداية الحرب، ” أكبر وأهم سبب في أن تبقى على قيد الحياة كل من “روسيا”، “الصين” و”الولايات المتحدة الأمريكية”، مع تساويها جميعاً في القوة”، إذ ليس للتصنيفات زخارف معينة لتجميلها، بل هي الحقيقة الاستراتيجية الصرفة التي مازالت مكانها.
“روسيا” كانت “الجوكر” في المنافسة العالمية القائمة بين “الصين” و”الولايات المتحدة”، إذن من الذي يمكن أن يضيف ميّزة للآخر إن تم سحب هذه الورقة من “واشنطن”؟، يبدو أن الورقة حالياً في يد “الصين”، وبحسب ما نرى، فالتمويل من “الصين” بينما الأمن من “روسيا”.
“روسيا” ستصل إلى الأهداف التي وضعتها لنفسها بصرف النظر عن الجدول الزمني لتحقيق ذلك، وإن كانت سريعة في ذلك، فالخسارة ستكون من نصيب “الولايات المتحدة” دون شك.
“أوروبا” لاتزال مقصيّة عن الجغرافيا السياسية لعدم استطاعتها وضع القوة العسكرية وراء كل مظاهر العقوبات التي نراها حالياً، فتخيلوا مثلاً، حتى رئيس “حزب الشعب الجمهوري” الذي يتحفّظ على أدنى انتقاد للغرب، يقول: ” يجب على تركيا أن تلعب دوراً وتساهم في عملية إعادة الإعمار في أوروبا”، أي أنهم أيضاً مدركين لحجم الدمار الذي حلّ بـ”أوروبا”..
و”أوروبا” ذاتها ليست غافلة عن الأمر، فمن الصعب على “ألمانيا” و”فرنسا” تخطي الأمر، سواء إن انتصرت “الولايات المتحدة” في الحرب أم كان النصر حليف “روسيا”، في الاحتمال الأول، ستستمر عبوديتهم لحلف شمال الأطلسي، أما في الثاني…. فستنسحب “أمريكا” من “أوروبا”، والنتيجتان ليستا في شكل مثالي بالنسبة للوضع الأوروبي..
وهو احتمال وارد لا يمكن استبعاده، كما لا يمكن إغفال التوجه الأمريكي نحو “المحيط الهادي” سواء أربحت “أوكرانيا” أم هزمت، وهو السبب الرئيسي أيضاً في بحث “الاتحاد الأوروبي” عن آلية أمنيّة مستقلة.
فالهدف المتمثل في جعل “روسيا” تنصهر في”أوكرانيا”، كي لا تجرؤ على التدخل في مكان آخر، سيحكم الخناق أيضاً على “أوروبا” ويربطها بعمود متين لن تستطيع الخلاص منه بسهولة..
هل بإمكانكم مؤخراً ملاحظة قلة القراءات والافتراضات القديمة المتعلقة بالتسلسل الزمني للأحداث من الماضي إلى الأبد، في الوقت الذي كنا ننشر فيه دخول العلاقات “الروسية – الصينية” في طور جديد ضمن شروط العالم الجديد..؟!
على الرغم من أن العلاقة بين “موسكو وبكين” أصبحت أكثر تنظيماً عمّا كان عليه سابقاً، لكنها لا تزال معتمدة على التكتيك الذي يمكن اعتبارهُ في مراحله الأخيرة، أي، في مستوى التعاون التكتيكي الذي يمكن أن يفضي إلى نتائج استراتيجية.
كما يمكن رؤية تلك الرغبة في بلوغ أعلى درجات الاستراتيجية من خلال التعاون الاقتصادي والمصالح المشتركة وتعويض الخسائر الروسية في الطاقة التي تعتبر جميعاً … أمورا بين يديّ “الصين”، بالدعم غير المشروط في “أوكرانيا”، أضف على ذلك إيقاف “كسنجر” للحرب في غضون شهرين فقط، كل هذه الأمور تعتبر من المستويات العليا للاستراتيجية.
كذلك، ما يتم تداوله من شائعات حول تحليق الطائرات النووية للبلدين جنباً إلى جنب في “المحيط الهادي”، وارسال “الصين” جنوداً إلى “أوكرانيا” بناء على رغبة الجانب الروسي، كل هذه الأمور، ما هي إلاّ شكل من أشكال تلك الضغوطات.
تركيا هي “الجوكر” في منافسة الشرق مع الغرب…
توطدت العلاقات “الروسية” مع “الصين” في الآونة الأخيرة أكثر من ذي قبل، نتيجة للسياسات “الأنجلو أمريكية” في “أوروبا” بشكل أساسي، إذ لم ترغب “الصين” ولا حتى “الولايات المتحدة” بسيناريو تصبح فيه “روسيا” على الجبهة المعارضة، كما أنّ سيناريو الشراكة المؤقتة بين “روسيا والولايات المتحدة”، سيكون سيئاً جداً من وجهة النظر الصينية.
فإن حاولت “روسيا” أن تكون قوة متساوية لا تستطيع “الولايات المتحدة والصين” التخلي عنها في مواجهة كل منهما للآخر، وإن كان الهدف زيادة النشاط أكثر في “أوروبا الشرقية، جنوب القوقاز وآسيا”، حتى وإن كان مستغنياً عن الولايات المتحدة الأمريكية ومضحياً بأوروبا…يجب على رئيس الجمهورية التركية، إدراك ما يلي…
“لقد ظللنا دائماً، بعد الحرب العالمية الثانية، مستبعدين عن الانضمام بشكل تام في الاتفاقيات، وبقينا نحوم في أطرافها، لنجد أنفسنا وسط انقلابات وفقدان للاستقرار وأزمات عديدة، في كل مرة حاولنا فيها رسم ملامح طريقنا الخاص سياسياً واقتصادياً”..
عندما تطرح “روسيا” المسألة السورية على الطاولة، فلا تنسَ استحضار “الخارطة الكبرى” في ذهنك..