خلال أكثر من عقد من الزمن شهد مسار السياسات الخارجية التركية انكسارات واضحة، شملت دول المحيط وما بعد المحيط، وكان للعلاقة مع السعودية نصيب واضح في هذا التعثر. فقد رانها توتر شديد بسبب دعم أنقرة لجماعات الإسلام السياسي، وكذلك دخولها على خط الأزمة الخليجية كفاعل مهم. كما تعزز هذا الوضع بشكل كبير بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده على الأراضي التركية. فهل هذا المشهد السلبي يمكن الحكم عليه الآن بأنه بات من الماضي؟ وهل سياسة تصفير المشاكل التي رفعتها أنقرة يوما، يجري تطبيقها على مسار العلاقات بين البلدين؟ أم أن التحسّن الذي طرأ مؤخرا على العلاقة بينهما محكوم بالظرف الدولي الراهن؟
يبدو واضحا أن قطاع التجارة هو من أبرز العوامل الدافعة لتركيا لتحسين علاقاتها بالرياض، فالوضع الاقتصادي التركي يجعل العودة إلى الأسواق السعودية حاجة ماسة، كما يبدو أن الجانب العسكري جاذب لكلا الطرفين، فأنقرة استثمرت فيه مبالغ كبيرة، وشهد تطورا واسعا خلال السنوات الأخيرة، وحقق إنتاجها للمُسيّرات نجاحات واضحة في مناطق عديدة من العالم، لذلك هي اليوم تسعى لتسويق هذا النجاح في دول الخليج، وفي الدول العربية بشكل عام، والحصول على مردودات مادية كبيرة تنهض باقتصادها.
وقد توفرت رغبة لدى عدد من الدول العربية في الدخول في شراكات معها، لنقل التكنولوجيا وتبادل الخبرات. كما أغرى ذلك السعودية وجعلها تسعى للفوز بشراكة دفاعية مع تركيا في هذا الوقت بالذات، كل هذا يأتي في إطار أوسع لإعادة تنظيم العلاقات بين حلفاء واشنطن التقليديين في الخليج، الذين باتوا يسعون لتحصين أنفسهم للمرحلة المقبلة. وإذا كان العامل الاقتصادي فاعلا في عودة أنقرة للتقرب من عدد من العواصم في المنطقة، التي تعثرت العلاقة معها طوال أحداث الربيع العربي، فإن الشأن السياسي الداخلي يفرض وجوده على أجندة العلاقات الخارجية التركية أيضا، فالاستحقاق الانتخابي الأهم الذي يواجهه الرئيس التركي أردوغان بات قريبا، حيث الانتخابات الرئاسية التركية في العام المقبل. وهذا الحدث ليس رهانا سياسيا شخصيا بالنسبة له وحسب، إنما هو رهان حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس، وكذلك رهان للمحيطين به من حاشية وأتباع وأقرباء، لذلك هو حريص على توفير الأجواء المناسبة للدفع بالناس إلى صناديق الاقتراع وهو مطمئن إلى أنهم سيصوتون له. ولن يتحقق هذا الحلم إلا عندما يصبح الوضع الاقتصادي بحالة مختلفة عن السوء الذي هو فيه الآن، حيث تشهد العملة الوطنية انهيارات متتالية، ونسبة التضخم فاقت حتى توقعات البنك المركزي التركي، الذي خمّن وصول التضخم إلى نسبة 70% مع نهاية العام الحالي، بينما وصلت النسبة اليوم إلى 73%. لذلك تبرز السعودية كمنقذ اقتصادي، لكن هل تعطي الرياض صوتا لأردوغان من دون شروط مسبقة؟
يبدو أن شروط الرياض جاهزة، وربما كان يعرفها الرئيس التركي جيدا، فلا استئناف للعلاقات الطبيعية بين البلدين من دون إغلاق تام لملف جمال خاشقجي، وقد استجاب الرئيس لذلك، وقام بتسليم الملف إلى السلطات السعودية بترتيب قضائي وسياسي أيضا، ولم يكن الأمر مُحرجا له بعد أن تم إغلاق هذا الملف من قبل الولايات المتحدة والغرب عموما، في ضوء حالة المغازلة للسعودية بدفع من الحاجة لإيقاف التداعيات في سوق الطاقة، بعد العقوبات التي تم فرضها على روسيا بسبب غزو أوكرانيا، فملفات حقوق الإنسان فرص استثمارية لا أكثر بالنسبة للغرب، أما الشرط السعودي الآخر الذي ربما يكون مؤلما جدا لأنقرة، فهو وقف الدعم الذي تقدّمه أنقرة لجماعات الإسلام السياسي، فأهمية هذا الملف تأتي من كونه عاملا مهما من عوامل صنع القرار السياسي الخارجي التركي، تجاه المنطقة العربية خلال سنوات الربيع العربي، ومع ذلك يبدو أن أنقرة استجابت لمتطلبات إعادة العلاقة مع الرياض، والدليل على ذلك، الزيارة الأخيرة لأردوغان، التي كان مقررا لها أن تتم في وقت سابق، لكن السعودية طلبت تأجيلها آنذاك، فإذا كانت أنقرة قد خضعت لشروط الرياض، فهل كان صانع القرار السعودي يتمتع بحرية كاملة عند اتخاذه قرار التموضع مجددا مع تركيا؟ يقينا لا.
أولا يجب الإشارة إلى أن المصالح الاقتصادية باتت تلعب دورا أكبر من السابق في العلاقات الدولية في هذا الظرف بالذات، حيث الحرب الروسية على أوكرانيا. لذلك لا بد من أن تكون الخطوات المتبادلة بين البلدين قد تمت في نطاق هذا الصراع الدولي الجاري اليوم. لكن العامل السياسي لم يكن بعيدا عن الموضوع. فقد أدركت الرياض أن الحضور الأمريكي في المنطقة لم يعد كما كان، وأن هذا الفراغ الناشئ عن ذلك لا توجد قوى دولية تُغطيه، كما كان السياق المعمول به على مر العقود الماضية، بل إن القوى المرشحة للحلول محله هي تركيا وإيران وإسرائيل. وبما أن السعودية تعتقد أنها لاعب مهم وقوة إقليمية، لذلك وجدت في الرغبة التركية في عودة العلاقات فرصة للتخفيف من الكُلف السياسية والعسكرية الناتجة عن الانكفاءة الأمريكية عن المنطقة. كما أن وجود علاقة متوازنة مع أنقرة من شأنها تعزيز موقفها التفاوضي في حواراتها مع طهران، التي تجري في بغداد، إضافة إلى أنها ستخلق قدرا من التوازن في علاقاتها مع كل الأطراف الفاعلة في الإقليم، وبما أن أنقرة نفضت يدها من ملف جمال خاشقجي وسلمته إلى الرياض، وأن ورقة الإسلام السياسي لم تعد ذات قيمة استراتيجية في يد تركيا، خاصة أن هذا التيار في حالة تراجع كبير، فإن الواقعية السياسية تفرض على صانع القرار السعودي التلاقي مع الرغبة التركية، لكن هل كان المسار الجديد في العلاقات السعودية التركية خاليا من البصمات الأمريكية؟ يبدو واضحا أن سياسة الولايات المتحدة الامريكية في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، تقوم على مساعدة الدول الحليفة لها بالدفاع الذاتي عن نفسها. كذلك دفعها لتعزيز العلاقات بينها وأنشاء كيانات وتجمعات سياسية واقتصادية وأمنية مشتركة، وهي لا تتوانى عن ممارسة الضغط السياسي على هذه الدول لتنحية الخلافات القائمة بينها. فهي تريد التركيز على أولويات محددة لديها، ولم تعد لديها الرغبة في تشتيت جهودها في مناطق كثيرة من العالم، أو الخوض في وحل خلافات الحلفاء، يضاف إلى ذلك أن دول الإقليم التي تصارعت على مدى عقد من الزمن في العديد من الأماكن، وتوسلت بالعديد من الوسائل كالقوة العسكرية والقواعد الأجنبية والميليشيات والمؤامرات، وصلت هي الأخرى إلى قناعة بأن الحسم العسكري في أي من الملفات والأزمات شيء مستحيل، والدليل على ذلك ما زالت الأزمة الليبية قائمة ولم يحسمها التدخل التركي، كذلك لم يحسم التحالف العربي الأزمة في اليمن، بل حتى الملفات القديمة كسوريا والعراق ولبنان، التي بذلت فيها إيران المال والرجال والسلاح، ما زالت تراوح مكانها وتشكل اليوم عبئا سياسيا وأمنيا واقتصاديا كبيرا عليها.
إن دخول العلاقات السعودية التركية في مسار إيجابي مهم لهما وللمنطقة، لكن العنصر الحاسم في ذلك هو عامل الثقة المتبادلة، وكي تتوفر الثقة يجب أن يلتقي الطرفان على أهداف استراتيجية وليست مرحلية.
بواسطة / مثنى عبد الله