هناك من استغل وروج لأطروحة أن تركيا تفعل عكس ما تقوله أو أنها تراجعت بكلمتها بخصوص موقفها لطلب فنلندا والسويد للانضمام إلى عضوية حلف الشمال الأطلسي “الناتو”. هؤلاء هم أنفسهم المتلاعبين الاعتياديين الذين يعارضون كل ما يقوم بفعله الرئيس أردوغان.
ومن خلال استنادهم إلى أن أردوغان قد غيّر من أفكاره ومواقفه وسياساته بخصوص العديد من المسائل في الماضي ،وتوقعوا أن يحدث تغيير في المواقف وأن تتصرف تركيا كـ”وصي” و”خادم” للولايات المتحدة وتتخلى عن كل أطروحاتها. ولكن الكلمة المناسبة لهم أنهم كانوا يأملون في ذلك.
وكل الأحداث التي استندوا إليها في الماضي هي عبارة عن تحركات سياسي بارع اكتسب خبرة غير مسبوقة في السياسة الدولية. وهم يريدون أن يجعلوا هذا السياسي البارع وكيلًا ينظر إلى الأمور من أفق ضيق دون الاكتراث إلى النتيجة أو رؤية الحدث بأكمله.
من جهة أخرى، تتطلب السياسة بشكل عام، و السياسة الدولية بشكل خاص ، أن تكون عمليًا (براغماتيًا) قدر المستطاع.
ورغم ذلك لا أُفضل أن أقول كلمة “عمليًا” (براغماتيًا) لأن السياسة الخارجية التركية في هذه الفترة لم تكن قائمة على البراغماتية (العملانيَّة ) غير المبدئية، بل تستند على نهج يحترم القيم تمامًا. وإلا فإننا لن نختلف عن أولئك الذين ننتقدهم أو حتى نعتبرهم خصوم.
وهذه الأيام تذكرنا بمقولة القائد البوسني والمفكر المسلم علي عزت بيغوفيتش: “لن تخسر الحرب عندما تفقد خصومك، ولكن تفقدها عندما تصبح مثلهم”. ويمكننا حتى إعادة قراءة تاريخ تركيا بأكمله من خلال هذه المقولة الرائعة لـ”بيغوفيتش”.
وفي سياق متصل، عندما كانت تركيا تحترم المبادئ لم تتخل أبدًا عن مصالحها، بل حتى أنها كسبت منافع حقيقية بفضل السياسة المبدئية للقيم التي اتبعتها.
وبكل تأكيد ليس بسيطًا هدف الشخص الذي يتبع تلك المبادئ لأن ذلك الأمر بالتأكيد مكافأة مقدمة ومقدرة بمشيئة الله سبحانه وتعالى للعمل بتلك المبادئ.
من جهة أخرى، ليس من السهل إدراج المكاسب التي حققتها تلك المبادئ في تحليل وقراءة السياسة الدولية، لكن النتائج واضحة.
مضى عشرون سنة على تولي الرئيس أردوغان قيادة تركيا (كرئيس ورئيس وزراء) وتاريخ العالم يُكتب خلال هذا الفترة.
لا يوجد زعيم أقدم منه في قمة الناتو. لقد تغيّر قادة الدول عدة مرات، لكن أردوغان هو الزعيم الذي مثل تركيا لمدة عشرين عامًا.
ليس القادة فقط هم من يتغيرون بل تتغير معهم السياسة وعلم الاجتماع أيضًا، لكن من المتوقع ألا يتغير أردوغان بشأن أي موضوع كان.
أيًا كانت الطريقة التي تراه بها، فهو يستند إلى عقلية تحدث توقعات غريبة في السياسة وقبل أي شيء يسير عكس السياسة، ويقوم بالإجراءات السياسية بكل براعة وبالسر دون علم أحد.
والجانب الجيد بكل تأكيد هو أنه لا توجد فلسفة عميقة وراء ذلك ولكن الجانب الأسوأ هو أنه لا يتم الخوض في أي موضوع من أجل الانتهازية السياسية اليومية التي يمكن التعامل معها بأي عمق.
كل شيء كان واضحاً مثل وضوح الشمس، أردوغان لم يقول أنه لن يوافق على عضوية السويد وفنلندا تحت أي ظرف من الظروف، بل قال إنه لن يوافق على قبول عضويتهما ما لم تتحقق الشروط.
ومن خلال النتائج التي كسبها من خلال سياسته فيما يتعلق بالأعضاء الجدد في الناتو. لقد حقق أردوغان أحد أعظم الانتصارات في تاريخ قيادته. وأيًا كانت الطريقة التي تراه بها، فهذه تُعد خطوة كبيرة في السياسة الخارجية لتركيا وفي السياسة العالمية لتركيا.
ربما كانت تركيا في الماضي أضعف عضو في حلف الناتو ، واليوم سُنحت الفرصة لها لتبرز للمرة الأولى كجهة فاعلة تُعبر عن حقوقها وتستخدم عضويتها إلى أقصى حد.
وبدأت تركيا بالمساءلة والمحاسبة حول الممارسات والأنشطة التي تقوم بها دولتين أوروبيتين (فنلندا والسويد) ضدها وإخبارهم علنًا بأخطائهم ودعمهم للإرهاب.
وفي الحقيقة هو لم يقوم بمحاسبتهم فقط، بل أجبر الدول الأخرى التي تقوم بنفس الممارسات ولا تزال أعضاء في الناتو أن تعترف بأوضح طريقة بارتكابها لتلك الأخطاء.
حققت تركيا مكاسب كثيرة من خلال هذه الخطوة ،لكنني أعتقد أنه من الضروري التأكيد على أهم نقطتين.
النقطة الأولى هو أن تركيا لم توجه كلامها فقط للسويد وفنلندا (بخصوص أنشطتها ودعمها لإرهاب) كما يظن البعض. بل وجهت كلامها وأخبرته لكل أعضاء الناتو
قال أردوغان (إذا جاز التعبير): “السويد وفنلندا (القول لكم)، الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا، (أنتم المستمعون).
لأنهم بالنهاية هم الذين يدعمون تنظيمي بي واي دي/ واي بي جي” الإرهابيين بشكل مباشر ويدعمون تنظيم بي كي كي الإرهابي بشكل غير مباشر في سوريا، ولم يضطروا أبدًا إلى أخذ تحذيرات تركيا على محمل الجد.
ليس من الصعب التنبؤ بما سيفعلونه بعد ذلك الأمر. ولكن حتى في هذا الوقت، تطرقت تركيا في أجندتها حول تماسك حلف الناتو وأعماله المجدية ووظائفه.
والسؤال المهم الذي يجب طرحه على حلف الناتو هو كيف يمكن لتحالف أن ينخرط ويتورط في كافة أنواع المؤامرات والأنشطة الإرهابية ضد أعضائه، وأن يقوم بنفس الوقت بحمايتهم.
واليوم، لم يتمكن حلف الناتو حتى من حماية أوكرانيا الذي قام بتشجيعها وحثها على عضوية الحلف.
النقطة الثانية هي أن تركيا حققت اليوم في هذه المناسبة موقعًا استطاعت من خلاله السيطرة على جميع الدول الأوروبية عبر دولتين أوروبيتين، ولا سيما أن تركيا كانت في الماضي منفتحة تحت إشراف الدول الأوروبية لسنوات حول ما إذا كان ينبغي قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي أم لا وعانت كأمة من خلال ذلك.
ووفقًا للمذكرة الثلاثية التي وافقت عليها تركيا لم يتم قبول عضوية السويد وفنلندا للانضمام إلى الناتو حتى الآن.
وبذلك ستشرف تركيا على أنشطة الدولتين، وما إذا كانتا ستتصرفان وفقًا لوعودهما والتزاماتهما وهذه إحدى إجراءات قبول العضوية.
إذا لم تمتثل السويد وفنلندا إلى شروط الاتفاقية فإن حق النقض التركي (الفيتو) ضد عضويتهما متحفظ عليها.
بغض النظر عن كل الأقاويل والآراء التي تُطرح ، وبالنسبة لتاريخ العلاقات هذه هي المرة الأولى التي يحدث بها ذلك منذ مائتي عام على الأقل.
دعكم من تمنيات الأشخاص الذين يقولون إن أردوغان تحدث مرة أخرى بصوت عالٍ وتراجع عن كلمته ووعوده. انظروا إلى أولئك الذين يقولون إن تركيا لم تحقق شيئًا في مدريد، ماذا يريدون أكثر من ذلك يا ترى؟
بواسطة / ياسين اكتاي