وبينما نحن في طريقنا، ألقيتُ نظرة على لائحة الأسماء التي سيتم دفنها، لأجد أنّ أصغر الضحايا “سليم مصطفيك” كان يبلغ من العمر 16 عاماً، بينما كان “حسيجين كرديسك”، 59 عاماً، هو أكبرهم سناً، كما كان من المقدّر للشقيقين التوءمين أيضاً، اللذين لم يبلغا الـ 20 عاماً، “سيمير وسمير حسنوفيك”، أن يكونا من بين ضحايا تلك المجزرة ويدفنا جنباً إلى جنب.
حاولت أن استحضر في ذهني لحظاتهما الأخيرة…. ترى، أيّ الشقيقين قام “الصرب” بذبحه أولاً؟، هل كان “سيمير” أو “سمير”؟، أيّهما اضطرّ أن يكون شاهداً على ذبح النصف الآخر من روحه؟، يا إلهي … ما هذا الألم الذي لا يمكن تصوّره لثوانٍ معدودة؟!، أنا أيضاً لم أستطع تخيّل ذلك المشهد المريع.
فما كان منّي إلاّ أن رميت بنفسي إلى الطرقات السائرة، إلى تلك الخضرة وتدرجاتها، إلى الجبال والروعة الكامنة في جمال تلك الغابات الشامخة، فمن يدري أيّ شكلٍ من أشكال الرعب ظلّلته هذه الأشجار؟… بعد مدة… شُلّ ذهني عن التفكير تماماً..
كانت الساعة تقترب من التاسعة عند وصولنا إلى “النصب التذكاري” في “بوتوكاري”، وكانت المراسم الأولى للدفن على وشك أن تبدأ،وقد لفت الأنظار الوفد الكبير الذي شاركت به “تركيا” في البرنامج الرسمي لإحياء الذكرى، فكان من بينهم، نائب رئيس “حزب العدالة والتنمية” البروفيسور الدكتور “نعمان كورتولموش” مع الأمين العام للحزب “فاتح شاهين”، بالإضافة إلى “رئيس مجموعة الصداقة البرلمانية التركية – البوسنيّة” السيد “رفيق أوزان”، ونائب وزير الثقافة والسياحة “أحمد مصباح ديميرجان”، والسفير التركي لدى “سراييفو” “صادق بابور غيرغين”، وعدد كبير من المتطوعين في منظمات تركية غير حكومية.
تم إعداد برنامجين رسميين منفصلين في “سربرنيتسا”، فالأول، كان الاحتفال بالذكرى على مستوى الدول، وإقامة بعضها مراسم خاصة بـ “الاعتراف”، والذي يصادف اليوم الذي جمع فيه الجنود الهولنديون آلاف المدنيين البوسنيين في معمل البطاريات، وقاموا بتسليمهم إلى القوات الصربية، ورغم أنها المرة الثانية التي أزور فيها هذا المعمل، إلاّ أنّي شعرت بذات المشاعر التي انتابتني في زيارتي الأولى.
وسط هذا المعمل الضخم، كنت كمن يسمع صرخات أولئك الأطفال الذين تم انتزاعهم من أمهاتهم، صرخات الفتيات الصغيرات والنساء تدنس أعراضهم، في الوقت الذي كانوا فيه يقلّون الشباب إلى شاحنات الموت تلك… قبل 27 عاماً..
كان ضمن الوفد التركي، نائب رئيس “الوكالة التركية للتعاون والتنسيق” “محمود جيفيك” الذي وضّح الدور الذي تبنته “تركيا” في تحويل معمل البطاريات القديم إلى متحف يخلّد تلك المجزرة، ذلك المتحف الذي وصل متوسط الزيارات السنوية فيه إلى نحو 130 ألف شخص، كما تم في العام الفائت تجديد سقف المصنع العائد إلى الحقبة اليوغسلافية بالكامل.
فإلى جانب نقل المعاناة التي عاشها المسلمون في هذا المكان، سيحمل المتحف، الذي تقوم بإنشائه أيادٍ تركية، إلى المستقبل آثار تلك الإبادة الجماعية التي تم ارتكابها في قلب “أوروبا” بحق المسلمين، وليعيد إحياء العار الذي يجب أن يشعر به الغرب بشكل مستمر.
لعلها المرة الأولى التي يضيّق فيها المسلمون على “أوروبا” إلى هذه الدرجة، أمام كارثة كبرى لتقف وجهاً لوجه مع الفظائع التي ارتكبتها.
في الوقت الذي مثّل فيه الدكتور “نعمان كورتولموش” “الجمهورية التركية”، نقل بشكل شفهي أيضاً رسالة رئيس الجمهورية “أردوغان”، إلى جميع الحاضرين في الصالة، أما فيما يتعلق بالكلمات التي سبقت كلمة السيد “نعمان”، فكانت لعدد من ممثلي الدول والتشكيلات الغربية، والتي تمحورت بالمجمل حول وصف المعاناة والقصص الإنسانية واعترافهم بحجم المأساة والخجل الذي ينتابهم تجاه ذلك، وكأنّها كانت خطابات مكتوبة من قبل قلم واحد.
من الواضح أنّ “الغرب” تقبل إهماله الذي لا يغتفر في “سربرنيتسا”، لكن في الوقت ذاته، لاتوجد نيّة للعقاب أوالمحاسبة، فكان إلقاء اللوم بشكل مستمر على “الصرب” هو همهم الوحيدة، لينأوا بأنفسهم عن حقيقة أنهم كانوا المحرضين الأساسيين على تلك المجزرة، فكانت المناورة التي قام بها وزير الدفاع الهولندي “أولونغران” معبّرة عن هذه الفكرة بالضبط، حين قال: “لم نستطع حماية المدنيين لكننا بذلنا قصار جهدنا”…. دون أن يتطرّق أو حتى يلمّح لجنود بلاده الذين سلموا أولئك المدنيين إلى “الصربيين”.
أما السيد “نعمان كورتولموش” الذي صعد المنصّة ممثلاً عن “تركيا”، فقد وبّخ بشكل علني، الدول الغربية التي لم تفِ بتعهداتها في “سربرينيتسا”، مكتفية بتمرير ذلك الإهمال شفهياً لا أكثر، حيث بدأ “نعمان” كلمته باستحضار عبارة “آليا إزيتبيغوغيش” حين قالت: “افعلوا كل ما في وسعكم لعدم نسيان الإبادة الجماعية”، كما أدلى بالجملة التالية، التي لا بدّ من التأكيد عليها:
“يجب أن لا ننسى حصة المجتمع الدولي من المذبحة المرتكبة في “سربرينيتسا” لا تختلف عن حصّة مرتكبيها، إذ مازلنا نتذكر ما أظهروه من صمت وتردد وعجز، والأكثر إيلاماً من كل هذا هو انعدام حساسيتهم تجاه الأمر”.
عندما عدنا مساءً إلى “ساراييفو”، بعد دفن من تم التعرف على هوياتهم، أشار السيد “نعمان”، انطلاقاً من كلمته، إلى ثلاث نقاط رئيسية تجبر المجتمع الدولي على الاجتماع في نقطة واحدة:
1-يجب اتخاذ موقف حقيقي واضح لإدانة هذه الإبادة الجماعية، مع أهمية التخلي عن اللغة المتناقضة والتحفّظ الدولي.
2-لاتولد الإبادة الجماعية من العدم، ولهذه الجرثومة بيئة نشطت فيها، فما هي هذه البيئة؟، هي ممثلة بالتمييز العنصري، عداء الأجانب والمهاجرين، بالإضافة إلى الجانب الأهم الذي بدأ بالانتشار عالمياً خلال الأعوام الأخيرة والتمثل بالإسلاموفوبيا، وكذلك جرائم الكراهية، إذ يتحتم على الجميع التعامل بصدق تجاه هذه القضايا.
3-الفشل الكبير للمجتمع الدولي في “سربرنيتسا”، وعدم إقامته لأية فعاليات أو أنشطة كان من شأنها تجنّب مثل هذه المجزرة، لذا، يتحتم على “الأمم المتحدة” أن تطوّر آلية وقائية تحول دون وقوع مثل هذه المذابح والإبادات الجماعية، فلو وضعت”الأمم المتحدة” مثلاً، ذلك اليوم، 11 تموز، في المخيم بضع مئات من الجنود المدربين جيداً حين غادره الجنود الهولنديون، لحالوا دون وقوع المذبحة.
كان من الممكن تفادي حدوث المجزرة لو بذلت “الأمم المتحدة” جهدها بدل خيارها في أن تكتفي بدور المتفرج فحسب، لكنهم أرادوا ذلك في ذلك اليوم.
لقد قطعت وعداً على نفسي بينما كنت أشاهد تلك النعوش المحملة من “سربرنيتسا” إلى “النصب التذكاري”،ـوأوّد مشاركته معكم:
كصحفي وكمسلم، لن أتوقف عن طرح هذه المجزرة والحديث عنها في كل منصّة، طالما أملك لساناً يتحرك… وقلماً يكتب.
بواسطة / أرسين جليك