قال الشاعر الألماني الشهير “فريدرش هولدرلين” : “اللغة هي أخطر النعم التي وُهِبت للإنسان”. وفي الحقيقة، نحن نشهد على وجودنا عبر اللغة، ونتمركز داخلها، ونعيش ضمن الحقائق التي بنيناها من خلالها.
هذه الخاصية التي تتمتع بها اللغة تكون ممكنة مع الأشخاص المتحدثين نفس اللغة والذين يبحثون عن فرص لتبادل نفس الكلمات ومشاركتها.
وما يجعل الكلام أو اللغة خطيرين هو أن يكون للكلمة إمكانية أن تؤدي وظيفتها دون الالتزام والتوافق مع الحقيقة والواقع.
ومن الواضح أن المجتمع البشري السليم يتكون من خلال تبادله وتشاركه في لغة تشير إلى الحقيقة. لكن غياب هذه المتطلبات، وتفوه الأشخاص بكلمات فارغة واكتساب تلك الكلمات قيمة في التشارك والتبادل فيما بينهم، وأن يكون هناك إمكانية لبناء الحقائق على تلك الكلمات، هو الأمر الواضح الذي يجعل من خاصية اللغة أن تكون خطيرة.
وأشار القرآن الكريم إلى الادعاءات الوثنية للمشركين من خلال الآية الكريمة: “كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا”. حيث يبين أن من خلال تكرار نطق تلك الكلمات والتحدث بها وتكرار سماعها نمت وتطورت لتصبح حقيقة وواقع لهم (إدراك للواقع).
وأعتقد أننا نجد ما هو أفضل بكثير في العصر الذي يصفوه بـ”عصر ما بعد الحقيقة”، حيث لا توجد هناك حدود تقريبًا للانفصال التام عن الحقيقة وخلق واقع مختلف تمامًا أمام الكلمة.
وفي هذه المناسبة، يُشار إلى أن لا يوجد هناك مهام في عصر ما بعد الحقيقة، وهذا يعني أنه لا يوجد هناك جوانب جديدة وحقيقية.
ويعتبر الجزء الأخطر في الكلمة، هو أنه بإمكانها تكوين واقع لذاتها دون الاقتراب من الحقيقة، وجعل الناس يعيشون في ذلك الواقع الافتراضي، ويمكننا العثور على الآلاف من الأمثلة على ذلك من التاريخ.
وتتواجد الأيديولوجيات على حد ذاتها عن طريق الخداع المشترك، بحيث تخلق وهم الحقيقة والواقع للناس.
وقد نواجه في عصر ما بعد الحقيقة، ألفاظ وتقنيات وأدوات مختلفة للغة، ولكن على الرغم من كل ذلك، لم يتم التوقف تمامًا عن وسائل البروباغندا (الدعاية) المبتذلة والوقحة والمزيفة للواقع. وتعتبر هذه الوسيلة الأكثر ابتذالًا لكنها في نفس الوقت تعتبر الأكثر بدائية، لأنها الطريقة الأكثر ضمانًا للخداع.
فمثلًا، تروجون لكذبة كبيرة وإذا لم يصدقها أحد ستقولون كذبة أكبر منها، وبالتالي ربما يكون من الأسهل على الناس تصديق الكذبة الأصغر منها، أو سماع الأكثر. وفي هذا السياق، لا يفتقر الناس لأي دوافع تتعلق بتصديق الكذبة، لأن كل كذبة تُطرح وتنتشر لها من يسمعها ويرغب بها.
ما هي الألاعيب اللغوية التي تحاك ويمكنها عكس حقيقة ما حدث في ليلة 15 يوليو/تموز
التصريحات التي أدلى بها مؤخرًا أعضاء حزب الشعب الجمهوري المعارض وأعضاء تنظيم غولن الإرهابي حول ما حدث في ليلة 15 يوليو/تموز، تعتبر من الأمثلة النموذجية التي تشير إلى أن المسافات بين الكلمة والحقيقة غير إلزامية.
وأدلى النائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري، أنجين أوزكوتش في يوم ذكرى 15 يوليو/تموز بتصريحات قال فيها: ” في 15 يوليو/تموز، عندما دعا رجب طيب أردوغان الشعب التركي للنزول إلى الشوارع واختبأ، كان رئيس حزب الشعب الجمهوري ونوابه في طريقهم إلى مبنى البرلمان التركي”.
لا تنظروا إلى أن تلك التصريحات تجعل أولئك الذين يعيشون في هذه العملية يضحكون بألم، وأنهم يجدون هذه التصريحات عبارة عن هراء قدر الإمكان.
لقد نشروا الكلمة وباعوها لمتلقيها في أخطر أشكالها وأكثرها خداعًا وتضليلًا. ومثل هذه الكذبة، يكون لديها جماهير ومحركين دوليين سيفعلون شيئًأ لتفشيها.
لا تقولوا من أين استمدوا أصل هذه الكلمات والتصريحات، فهم لا يكترثون حتى بالأصل.
لا يمكن لأحد أن يتوقع أن شعار “لن يكون أي شيء كما كان من قبل” سيكون صالحًا إلى ما لا نهاية، بالاستناد إلى بيئة الاجماع التي ظهرت بعد ليلة 15 يوليو/تموز ، والتي لا يمكن لأحد أن يعترض عليها في ظل ظروف ذلك اليوم.
ذلك الإجماع كان يتناسب بشكل طردي مع خطورة الأحداث والقوة الفعلية للحقيقة، لكن مع مرور الزمن تمكنت المواقف السياسية المذهلة من تحديد اتجاهات مختلفة لها، ضمن إطار هذا الحدث التأسيسي.
بعد انهيار الأوساط التي كانت فيها الجرائم علنية أمام الجميع (مشهورة)، بدأت مباشرة أجهزة الدعاية (البروباغندا ) تعمل بكامل طاقتها وتألف روايات مختلفة تمامًا عن أحداث تلك الليلة (15 تموز)، وبدأوا بالفعل في وصف الأحداث التي مر بها الناس بطريقة مختلفة.
كان لدى أعضاء تنظيم غولن الإرهابي في المحتوى الذي أنشأوه على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء باللغة التركية أو بلغات مختلفة، الجرأة على قول خلاف ما حدث على جسر شهداء 15 يوليو/تموز، والتي كانت تلك الأحداث واضحة أمام أنظار العالم ولم تكن مخفية على أحد.
لا أحد لديه أي تحفظات على إنكار تلك الحوادث، وهناك مئات الآلاف من شهود العيان والوثائق ومقاطع الفيديو التي يمكنها دحض تلك الادعاءات المخالفة لما حدث.
حتى لو لم يكن هناك سوري في حدث ما، اكتبوا أن هناك سوري في الحدث
بعد الاعتماد على غطاء ووهم جديد لبناء الواقع من خلال الكلمة، وبعد أن ذهب وتمزق ثوب الحياء، فلا توجد آية لا يمكن إنكارها، ولا كلمة لا يمكن تزويرها، ولا حقيقة لا يمكن عكسها وتلفيق الافتراءات عليها.
فعلى سبيل المثال، عندما لم يتمكن أولئك المهوسون باللاجئين المظلومين، من العثور على الأعمال السيئة والجرائم والانتهاكات التي كانوا يأملون تواجدها في اللاجئين السوريين، بحثوا عن طريقة لإنتاج بطولاتهم من خلال الحقد العنصري والكراهية التي شعروا بها تجاههم وسارعوا إلى تلفيق كل انتهاك يسمعوه ضد اللاجئين السوريين.
ومؤخرًا، نشروا أخبارًا تفيد أن هناك طفل سوري ألقى “ماء النار” (حمض النتريك) على وجه طفل تركي. كما أنهم نشروا خبرًا آخر يفيد أن هناك مجموعةً من السوريين يبلغ عددهم 15 شخص اقتحموا مجمعًا سكنيًا واعتدوا بالضرب على سكانه.
إذا كنتم تتساءلون عن حقيقة الأمر، فالحدث نفسه يتعارض مع طبيعة ما يسمى الحدث، حيث أوضحت التحقيقات أن الحادثة ليست كما روج لها ولم يكن هناك سوري واحد في الحادثة.
يمكنكم أن تتشتوا من خلال تلك العقلية الملغومة التي تستمر في التحريض ضمن عمليات كاملة التجهيزات، والتي تستمر في تكرار تلك الافتراءات حتى تصبح حقيقة بالنسبة لكم.
يقولون “ما بعد الحقيقة”، ولكن يبقى هذا المصطلح خيالي ووهمي. بل يعتبر هذا المصطلح من الأكاذيب القذرة في أكثر الأشكال البدائية والقديمة التي تعرفونها.
بواسطة / ياسين اكتاي