بالطبع، تكذب الولايات المتحدة؛ فكل هذا مجرد كذب وهراء، لاسيما عندما أعربت عن سعادتها باستضافة تركيا لاتفاقية شحن الحبوب، وتقديرها المزعوم لها.
فالأمريكان ليسوا صادقين؛ لأنهم خائفون من احتمالية أن تؤدي صفقة الحبوب إلى اتفاق سلام أكبر، ولأنهم يرسلون يوميًا المزيد من الأسلحة المتطورة إلى أوكرانيا.
إنهم ليسوا صادقين؛ لأنهم يقدمون تعازيهم لإرهابيي تنظيم “بي كي كي” المحيدين من قِبل تركيا، من خلال مؤسساتهم الرسمية المتمثلة في القيادة المركزية الأمريكية المعروفة اختصارًا بـ “سنتكوم”.
وفي الواقع، هناك تسلسل زمني للأحداث. فكلما نظرت الولايات المتحدة إلى تركيا هذه الأيام، تتذكر قمة مسار أستانة، وتسمع تركيا وروسيا وإيران وهم يقولون لها معًا: “يجب عليك مغادرة سوريا”. ولعلكم قرأتم تلك السطور في مقالنا السابق.
وقد قام الجنرال ذو الأربع نجوم في القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم” بزيارة قائد تنظيم “واي بي جي” الإرهابي، الذراع العسكري لتنظيم “بي كي كي” الإرهابي في سوريا. لتقوم تركيا بعد ذلك بتحييد عناصر التنظيم الإرهابي الذين تدعمهم الولايات المتحدة . ثم توالت التعازي الأمريكية من أجلهم. بعبارة أخرى، تتحدث تركيا والولايات المتحدة مع بعضهما البعض بلغة متبادلة. وإذا ما تساءلتم قائلين: “ما هذه اللغة التي تتحدث بها تركيا مع الولايات المتحدة؟”، فالإجابة هي: “اللغة التي يفهمونها”.
وفي وقت لاحق، نشرت صحيفة “ذا نيويورك تايمز” الأمريكية تحليلاً. ويمكننا القول إنه يمثل “الشعور الحقيقي” للولايات المتحدة تجاه تركيا.
ولا يزال أردوغان مصدر إزعاج للرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن. ويرجع ذلك إلى سياسات أنقرة التي تتعارض مع الأجندة الغربية وتدفع البيت الأبيض إلى الجنون.
دعونا نفهم سويًا ماذا نقصد بـ “دفعها إلى الجنون”؛ ليست سياسات أنقرة وحدها هي التي تدفع واشنطن إلى الجنون؛ نظرًا لأننا ما زلنا “أمريكا الصغيرة” في أذهانهم. لكن ما يدفعهم إلى الجنون حقًا هو أننا نمتلك الجرأة على هذا الأمر”.
إنهم لا يستمعون إلينا على أي حال، ولا يصدقون ما يرونه رأي العين، ولا يصغون لتحذيرات الأشخاص العقلاء ونصائحهم. لنفترض أنهم لا يستطيعون رؤية وضع تركيا ومكانتها الحالية، فكيف لهم أن يكونوا غير مدركين لأنفسهم بهذه الدرجة؟
وإذا كان نصف جنونهم سببه أنقرة فإن النصف الآخر سببه هم أنفسهم؛ لأنه ليس باستطاعتهم فعل أي شيء، وهذا ما لا يستطيعون استيعابه وتقبله.
وقد تبدو الرحلة إلى واشنطن اليوم وكأنها زيارة إلى مسرح كارثة. فهم يواجهون الدمار السياسي بعد عام ونصف فقط من وصول الديمقراطيين إلى السلطة. إذ إن انعدام الكفاءة، والانقسامات الداخلية، وهياكل السياسة الأمريكية، وقوة أعدائها لا تعرض مستقبل إدارة بايدن للخطر فحسب، بل تعرض أيضًا الجمهورية نفسها للخطر.
ويمكن رؤية تآكل النظام الحالي على جميع المستويات. وقد حشد جو بايدن، حلفاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضد بوتين، لكن الضرر الذي سببته عقود من الجغرافيا السياسية الأمريكية المُضللة لا رجوع فيه.
“ستدفع التداعيات الاقتصادية للحرب الأوكرانية مؤسسات الحكم الضعيفة إلى حافة الانهيار. وبينما تحاول واشنطن إقناع “الديمقراطيات ضد الأنظمة الاستبدادية” في الخارج، فإن ركائز النظام الليبرالي الأمريكي تهتز.” (“لماذا فشل جو بايدن”، 20/07، أ. توز، ذا نيو ستيتسمان.)
هذا النوع من المقالات التي تحمل توقيعات موثوقة وذو كفاءة منتشرة إلى حد كبير في الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك، لا يحتاجون إلى النظر، لأنهم يشعرون بحالة من الرفاهية في النهاية .
هل سيُفيدنا تدهور العلاقات الروسية الإسرائيلية؟
عندما تختصر الحدث في “لغة الصحافة”، فإنه لا يكون واضحًا بشكل جيد.
“موسكو تغلق مكتب الوكالة اليهودية التي تمارس نشاطها في روسيا”
تشير هذه الجمل القصيرة في الواقع إلى حالة أخرى من عمليات الانحلال المستمرة في عقل أوروبا، والشرق الأوسط، والقوقاز، وغرب آسيا.
ويتفق رئيس الوزراء الإسرائيلي على ذلك؛ حيث صرح قائلا فيما يتعلق بقرار إغلاق مكتب الوكالة اليهودية في موسكو: “إنه حدث خطير من شأنه أن يؤثر على العلاقات بين البلدين.”
وتسعى الوكالة اليهودية، إلى تشجيع اليهود حول العالم على الهجرة إلى إسرائيل. وجدير بالذكر أن قضية الهجرة أمر حيوي بالنسبة لليهود الإسرائيليين والأمريكيين.
ولطالما حرصت موسكو وتل أبيب على الحفاظ على العلاقات بينهما. لأن مجموعات المصالح بينهما كبيرة للغاية. فما الذي حدث الآن وتسبب في حدوث أزمة قوية بما يكفي لكسر آواصر الصلة الحالية بينهما؟
أولًا، الوكالة مرتبطة بالطبع بدولة إسرائيل. كما أن لديها علاقات مفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيًا، لا تتخذ روسيا قرارًا لديه القدرة على إحداث عواقب سياسية بهذا الحجم دون أن تقوم بدراسته جيدًا.
ثالثًا، ستُجري إسرائيل، انتخابات في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والقرار من شأنه أن “يدفن” الحكومة في عيون الشتات اليهودي العالمي!
رابعًا، ترتبط القضية ارتباطًا وثيقًا بالحرب الأوكرانية. وكما هو معروف، يوجد عشرات الآلاف من اليهود في أوكرانيا. يعيش بعضهم في العاصمة كييف.
خامسًا، إنهم مرتبطون بشكل وثيق بالوجود اليهودي في روسيا، وعددهم يزيد عن 150 ألفًا، وتربطهم علاقات قرابة أيضًا.
سادسًا، واحدة من الادعاءات التي ضخمت الأزمة أيضًا وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)؛ إذ يمثلا شبكة بين اليهود الروس واليهود الأوكرانيين. ولا يمكن تجاهل تحول موقف إسرائيل تجاه الحرب الأوكرانية الروسية من موقف “محايد نسبيًا” إلى “مساند/داعم” لكييف.
سابعًا، الأخبار التي تفيد بأن وفدًا من الحقوقيين الإسرائيليين سيتوجهون إلى روسيا من الممكن أن تعطي فكرة عن سبب تدهور العلاقات الروسية الإسرائيلية.
ثامنًا، تدهور العلاقات الروسية الإسرائيلية:
أ) يلحق الضرر بمعادلات “الناتو الجديد” التي يُجري محاولة إقامتها في الشرق الأوسط من خلال زيارة بايدن. ب) سيكون مثل هذا الانقطاع بمثابة نقطة تحول خاصة عندما تكون المنطقة في خضم سياسة جيوسياسية جديدة. ج) يفتح ثغرة في الجبهة الأمريكية المناهضة للصين وروسيا. د) يؤدي إلى ظهور نتائج ملموسة بشأن العمليات الإسرائيلية ضد سوريا. هـ) لقد أراد الغرب وضع لقاءات قمة جدة وقمة مسار أستانة في أقطاب متقابلة. بيد أن، روسيا، وتركيا، وإيران بدأوا في الظهور بشكل أكبر. و) عندما ننظر إلى الوضع ككل، وعندما يُضاف إليه اليهود الروس في إسرائيل، نجد أن إسرائيل تخسر أكثر. ز) تصبح العلاقات بين أنقرة وتل أبيب أكثر انفتاحًا على النفوذ الخارجي. ح) نعلم أن تل أبيب “تفهم” سوريا والعراق وإيران والقوقاز. يجب أن يكونوا أكثر انتباهًا لتركيا!
هكذا تستقر مثل هذه العوالم الشاسعة خلف ستار خبر يتضمن فقرة ما في الصحف.