في شهر تموز (يوليو) الماضي، نقلت وكالة الأناضول التركية شبه الرسمية تصريحات لوزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو حول عدد من المواضيع التي تتعلق بالسياسة الخارجية كان قد أدلى بها في حديث متلفز مع قناة “تي في 100” التركية. وقال الوزير ردّاً على سؤال بشأن العملية العسكرية التركية المحتملة في شمالي سوريا وموقف واشنطن وموسكو منها، “الولايات المتحدة وروسيا لم تفيا بوعودهما بإخراج الإرهابيين من المنطقة، وهذا يدل على عدم إخلاصهما في محاربة الإرهاب”.
وأشار تشاووش أوغلو إلى أن بلاده أجرت سابقا محادثات مع إيران بخصوص إخراج الإرهابيين من المنطقة، مضيفا: “سنقدم كل أنواع الدعم السياسي لعمل النظام ]السوري [في هذا الصدد] ضد ميليشيات واي بي جي الكردية”.
وفي نفس السياق، كشف الوزير التركي يوم الخميس الماضي الموافق لـ 11 أغسطس/ آب الجاري عن إجرائه محادثة قصيرة مع وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وردا على سؤال عما إذا كان هناك تواصل بين تركيا والنظام السوري على الصعيدين الدبلوماسي والسياسي، أكد تشاووش أوغلو أن التواصل بين الجانبين يقتصر حاليا على أجهزة الاستخبارات.
التصريحان مثيران للإهتمام بطبيعة الحال لناحية التوقيت والمضمون، وقد أثارا حالة من الجدل لدى العديد من الأوساط داخل تركيا وخارجها، لاسيما بالنسبة إلى المعارضة السورية، لكن من وجهة نظر الكاتب، لا تعتبر مثل هذه التصريحات استثناءً كما لا تشذّ عن لإطار العام المُتّبع سابقاً، ومن المهم فهمها في سياقها والظروف المحيطة بها. فالمتابع للتصريحات المماثلة التي أُطلقت سابقاً من قبل مسؤولين أتراك يستطيع أن يُلاحظ أنّها تأتي دوماً مترافقة مع عدّة معطيات من بينها:
أولا، استعدادات تركية لإطلاق عملية عسكرية ضد ميليشيات “واي بي جي” الكردية في الشمال السوري. ثانياً، معارضة روسية وإيرانية وأمريكية وأوروبية للعمليات العسكرية التركية في الشمال السوري، وأخيراً دعوات روسية وإيرانية لتركيا للتواصل مع نظام الأسد لحل الأزمة كبديل لإطلاق عمليات عسكرية.
والجدير بالذكر انّ نفس المعطيات تتكرّر دوماً قبيل أي عملية عسكرية تركية. على سبيل المثال، التواصل الاستخباراتي التركي مع نظام الأسد كان قد تمّ قبل سنوات بناءً على طلب من روسيا التي كانت تضغط من أجل لقاء بين أردوغان والأسد.
ما فعلته تركيا هو أنّها قامت بالتواصل استخباراتياً مع نظام الأسد لتقول لروسيا إنّها تحاول حل الوضع لكنّ المشكلة في نظام الأسد، لم يعط التواصل على هذا المستوى أي شرعية إضافية للنظام السوري، ولم يحل في النهاية دون إطلاق عمليات عسكرية تركية داخل الشمال السوري، وإنّما فكّك الفيتو الروسي وسحب إمكانية حصول أي إعتراض. اليوم يتكرر الأمر نفسه. عندما سافر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى سوتشي في بداية الشهر الجاري، أعاد بوتين طرح الأمر مشيراً إلى ضرورة اللقاء مع الأسد لحل المشكلة المتعلقة بالشمال السوري.
لكن أردوغان أشار إلى أنّ التواصل مع النظام جارٍ من الناحية الاستخباراتية جرى استئنافه وأنّ ذلك لم يحل شيئاً، لافتاً بطريقة غير مباشرة إلى أنّ عدم حصول تحوّل يعني أنّ نظام الأسد لا يستمع إلى روسيا وأنّ موسكو بإمكانها المساعدة.
تصريحات تشاووش أوغلو حول دعم النظام إذا ما قرر مهاجمة “واي بي جي”، هي لإرسال رسالة إلى داعمي الأسد بأنّها لا تعارض عمليات عسكرية لأي كان ضد هذه الميليشيات، لكنّها من جهة أخرى تأتي بمثابة إستنكار مفاده أنّ النظام ومن خلفه روسيا وإيران لا يحاربون هذا التنظيم وأنّ هذا الامر يقتضي تدخلاّ تركيا، لكن إن رغب نظام الأسد بمقاتلتهم، فليتفضل.
بيان الخارجية، أكّد أنّ أنقرة لعبت دورا رياديا في الحفاظ على وقف إطلاق النار في الميدان، وتأسيس “اللجنة الدستورية” عبر مساري أستانة وجنيف، وقدّمت الدعم الكامل للمعارضة السورية ولهيئة التفاوض، وأنّها ستواصل جهودها الحثيثة من أجل إيجاد حل دائم للنزاع في سوريا بما يتماشى مع تطلعات الشعب السوري.
الجانب التركي يعلم بطبيعة الحال أنّ الأسد لن يقوم بمحاربة هؤلاء بشكل حقيقي حتى إن قرّر ذلك، خاصّة أنّه لعب دوراً أساسياً في إنشائهم واحتضانهم وتوجيههم ضد تركيا. أقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يتفاهم معهم على صفقة تتيح انسحابهم (مؤقتاً) من مواقعهم مقابل استلامه لهذه المناطق. هل لدى نظام الأسد القدرة الكافية للسيطرة على هذ المناطق وضبط الأمن؟ بالطبع لا. هل ستثق أنقرة بنظام الأسد في حال حصل مثل هذا السيناريو؟ بالطبع لا. لكن على افتراض انّ نظام الأسد سيصطدم مع ميليشيات “واي بي جي” الكردية، لا شك أنّ ذلك سيثير استياء الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين وسيؤدي الى خلاف أكبر بين الطرفين، ستكون تركيا المستفيدة منه في نهاية المطاف.
مؤخراً، بدت هذه الميليشيات الوظيفيّة توسيع رقعة داعميها لتشمل أمريكا، وإيران، وروسيا، ونظام الأسد، بالإضافة الى بعض الدول الأوروبية. تفكيك رقعة الداعمين يتطلب سياسة مرنة وذكية من الجانب التركي. علاوةً على ذلك، هناك جزء من التصريحات يتعلق بواقع الداخل التركي والإنتخابات القادمة وحالة الإستقطاب المستفحلة في البلاد. كلّما إقترب موعد الانتخابات كلّما سنسمع المزيد من التصريحات المتعلقة باللاجئين ونظام الأسد. الحكومة التركية لا تريد أن تترك هذه الورقة بيد المعارضة التركية، وتريد أن تقول انّها تسعى الى السلام والاستقرار وإعادة اللاجئين لكن ليس بالشكل الذي تريده المعارضة التركية وبالتأكيد دون منح نظام الأسد الشرعية.
ولعل تعقيب وزير الخارجية تشاووش أوغلو فضلاً عن الموقف الذي عبّرت عنه وزارة الخارجية يوم أمس الجمعة الموافق 12 أغسطس يوضّح الموقف بشكل أكبر. فوزير الخارجية أكّد أنّ التواصل استخباراتي فقط، وأنّ لقاءه مع المقداد كان عابراً ولم يتم التحضير له بشكل خاص أو الجلوس، وإنما تم وقوفاً.
أمّا بيان الخارجية، فأكّد أنّ أنقرة لعبت دورا رياديا في الحفاظ على وقف إطلاق النار في الميدان، وتأسيس “اللجنة الدستورية” عبر مساري أستانة وجنيف، وقدّمت الدعم الكامل للمعارضة السورية ولهيئة التفاوض، وأنّها ستواصل جهودها الحثيثة من أجل إيجاد حل دائم للنزاع في سوريا بما يتماشى مع تطلعات الشعب السوري.
الخارجية التركية أكّدت كذلك على تصريح تشاووش أوغلو الأخير والذي أشار فيه إلى أنّ عدم وجود تقدّم في العملية السياسية فضلا عمّا تمّ التوصل إليه في أستانة وجنيف إنما يعود إلى نظام الأسد الذي يتحمّل المسؤولية عن ذلك، وهو هنا يشير بشكل غير مباشر أيضاً إلى دور كل من إيران وروسيا.
خلاصة القول، لا شيء جديد، فالأسد لم يتّخذ أي سياسة مغايرة حتى يتم مقاربة وضعه بشكل مغاير هذه المرّة.
بواسطة / على باكير