طبيع العلاقات مع الدول التي تربط تركيا بها علاقة حساسة يبدأ أحيانًا من جديد، وأحيانًا من البداية. ومن بين هذه الدول إسرائيل، وأرمينيا، وسوريا، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، واليونان.
والسياسة الخارجية للمعارضة بسيطة؛ وهي تتمثل في تطبيع العلاقات دون النظر إلى الظروف، ودون تقدير ما يجلبه أو ما يتطلبه ذلك التطبيع. كما أن مبرراتهم صحيحة أيضًا لأنهم يستمدونها من مبدأ مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، في السياسة الخارجية وشعاره: “سلام في الوطن، سلام في العالم”.
وبالطبع، بما أنهم لم يروا أو يخوضوا حربًا، فليس من الممكن لهم أن يفهموا كيف أسس مصطفى كمال أتاتورك علاقة “الوطن-العالم”. ولأنهم لم يدركوا ذلك، فقد استغلوا نفس المبدأ لمدة 60 أو 65 سنة اعتبارًا من الأربعينيات من القرن الماضي لإخضاع القوات المسلحة التركية ووزارة الخارجية التركية.
لهذا السبب، لا يمكن لهم فهم التطبيع وشروطه.
قالوا: لابد أن تتفقوا مع مصر على الفور. وجدير بالذكر أن القاهرة تتباطأ منذ شهور. ليس فقط بسبب حساسية العلاقات مع تركيا في الوقت الراهن، ولكن بسبب ضغط الولايات المتحدة أيضًا. وعلى الرغم من أن الشعب المصري لا يعارض تطبيع العلاقات مع تركيا إلا أن القاهرة لا تحرز تقدمًا ملحوظًا في هذا الصدد.
أما عن التطبيع مع إسرائيل، فنجدهم (المعارضة) يتشدقون بالتطبيع معها، ويقدسون المكاسب التي سيحققها التطبيع مع إسرائيل لصالح تركيا. لكن إذا تطرقت بالحديث عن المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة وتسألت قائلا: “ما مصير تلك المجزرة؟” فسوف يعجزوا عن الإجابة وتبرير تلك المجزرة.
بالطبع، لن تنفصل إسرائيل عن الولايات المتحدة الأمريكية، لكن علاقاتها تزداد حرجًا أيضًا. حيث انتقل ميناء حيفا من الصين الى الهند.
وبالفعل، تقف السياسة الداخلية أمام تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولعل السبب في ذلك، إنهم ذاهبون إلى الانتخابات وهذا يؤخر الخطوات التي يتعين اتخاذها بشكل متبادل. لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث مع الحكومة الجديدة.
أما عن أرمينيا، فقد تم التحدث والتفاوض معها باللغة التي تفهمها، وتم تشكيل تحالف مع الدول المؤثرة في يريفان. تم حلها في شهر ونصف. قد تتساءلون هل هناك مشاكل؟ نعم يوجد، وستظهر مشاكل أكثر. لكن ليس هناك مجال للعودة بعد الآن. كانت هذه عملية للوصول إلى مستوى معين في العلاقات، بحيث كان أصغر ناتج تقريبًا لتلك العملية هو أن الدولة الشقيقة أذربيجان استعادت أراضيها. وتغيرت معادلات القوقاز وغرب آسيا، وآسيا الوسطى، وبحر قزوين، وإيران، والبحر الأسود، والشرق الأوسط .
وكان التطبيع مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية هو الأصعب من نوعه؛ إذ كان هناك رد فعل شعبي واسع ضد ذلك التطبيع، ولا يزال مستمر. دعنا نقول إنه سيتم التطبيع معهم أيضًا؛ لأن الديناميكيات لا تتعلق فقط بتركيا والشؤون الداخلية لهذه البلدان. فقد تغيرت أيضًا حركات المنطقة والدول التي تضغط أو تؤثر على المنطقة.
فإذا تخيلنا أن المملكة العربية السعودية قريبة من روسيا والصين، بصرف النظر عن خط الولايات المتحدة، فهل كنا سنتفائل؟ وهل كنا نتخيل عدم رد مسؤول في الرياض على المكالمات الهاتفية لقادة الولايات المتحدة الأمريكية؟ لكن هذا البلد يقوم الآن، من ناحية، بتعديل أسعار النفط مع روسيا مقابل الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى يوقع اتفاقيات طويلة الأمد مع الصين.
دعونا لا نتطرق بالحديث من الأساس عن اليونان.. لقد تجاوزنا التطبيع، ولا توجد محادثات استكشافية أو حتى استشارية.
تسعى أنقرة دائما في تطبيع العلاقات إما إلى مستوى معين من الانسجام أو خلق ذلك الانسجام.
والآن دعونا نتطرق بالحديث عن سوريا. لقد حسمت المعارضة بالفعل مسألة التطبيع مع سوريا. ففي اليوم الذي ستصل فيه المعارضة إلى السلطة ستذهب إلى دمشق. ولن تجد من يقول: “يا أخي أنت تتبنى سياسات غربية / أمريكية، فكيف ستذهب وتحتضن دمشق؟”
وبما أن المعارضة ستُطبع العلاقات مع واشنطن أيضًا، فإنهم يعتقدون أنهم سيكونون قادرين على إقامة علاقات مستقلة مع دول المنطقة بدعوى أن تركيا ستصبح تركيا من جديد.
وقد نشرت دورية بريطانية، مؤخرًا، أخبارًا وتعليقات مفاددها: “حتى لو غادر أردوغان، لا يمكن لتركيا تغيير سياساتها الحالية تجاه الغرب. لأن الرأي العام التركي لا يريد ذلك. فكيف ستوازن المعارضة هذا الأمر، ولعل هذا هو التحدي الأكبر الذي سيواجهها.”
بدأت أنقرة بالفعل في التطبيع مع الدول المذكورة أعلاه عندما وصلت إلى المستوى المناسب في العلاقات. لكن أن تقولوا: “انظروا كيف فعلتم ما كنا نوصي به” فهذ يعني عدم المعرفة أو عدم القدرة على قراءة السياسة الخارجية، والاستراتيجية، والسياسات الأمنية.
وللمرة الأولى، تكون الديناميات الداخلية لتركيا وسوريا واللازمة للتطبيع أقل فعالية، وتهيمن فيها المعادلات الإقليمية والعالمية. فالامر المهم يكمن في الانسجام الكثيف في العلاقات.
اسمحوا لي أن اتطرق إلى عدة نقاط:
أولًا، بالطبع قمة سوتشي. يوجد الآن انسجام مختلف يرفع مستوى العلاقات التركية الروسية من المستوى “الثنائي” إلى المستوى الإقليمي والعالمي. وليس جديدًا على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن يشجع أنقرة على الحوار مع دمشق، لكن هذه المستويات قد ضاعفت تأثيرها. (يمكنك قراءة محتوى ذلك في المقالة السابقة).
ثانيًا، ثمة أربعة مجالات ستتأثر مباشرة بالتفاعل المتبادل الناتج عن انسجام العلاقات؛ وهي البحر الأسود، والقوقاز، والعلاقات التركية الغربية، وسوريا.
ثالثًا، إلى جانب الخطوط الروسية، سيكون لتركيا آثار ليس فقط على التطبيع مع إيران، ودول غرب آسيا، والخليج، ولكن أيضًا على خطوط النقل الواسعة وروابطها بالاقتصاد.
رابعًا، والأهم: مشاعر وأفكار دمشق، وروسيا، وإيران، وتركيا تجاه الوجود الأمريكي في سوريا.
خامسًا، لإدارة دمشق علاقات جيدة مع الدول العربية التي تربط تركيا بها علاقات طبيعية أو تتخذ معها خطوات للتطبيع.
سادسًا، تريد دمشق أن تصبح عضوًا في منظمة شنغهاي للتعاون، التي ستشارك فيها تركيا في سبتمبر/أيلول المقبل. وكذلك الدول المذكورة في المادة الخامسة.
سابعًا، من الواضح للعيان أن تل أبيب ستكون منزعجة للغاية للمقاربة الروسية – الإيرانية – التركية – السورية في سوريا. وجدير بالذكر أن الرأي القائل بأن العلاقات الإسرائيلية-الروسية ستتعافى منتشر، لكني أشك في ذلك الرأي.
ثامنًا، هناك الكثير من المآزق وراء هذه المواد الثمانية، لكن ما هو واضح أن تجديد العلاقات بين أنقرة ودمشق قد يكون حاسمًا في حل تلك المآزق.
وجدير بالذكر أنني لا أتحدث هنا عن هزيمة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، حيث المشكلة الأساسية تكمن في وجود الولايات المتحدة، ولا حتى عن حل مشكلة المهاجرين.
هذه هي المواد التي تلخص مسار تطبيع العلاقات مع الدول التي تربط تركيا بها علاقات طبيعية أو تتخذ معها خطوات للتطبيع.
بواسطة/ نيدرت إيرسانال